يدفعنا تفكك الحدود العراقية وتشريد الشعب العراقي، إلى السؤال عما إذا كانت نهاية العراق قد حانت. غير أن هناك سؤالاً آخر يفرض وجوده: إذا كان العراق القديم قد انتهى بالفعل، مع استمرار نوع من الاتحاد بين مكوناته، فما هي الهوية الجديدة التي سيكون عليها هذا البلد مستقبلاً؟ وإذا ما افترضنا أنه قد تم تقسيمه، فأين ستقع الاختصاصات الجديدة المقترحة للمناطق الفيدرالية وفقاً لهذا التقسيم؟
لقد طرحتُ سؤالاً شبيهاً بما سبق، على صديق مقرب لي في عام 2002، وهو مفكر وأستاذ بارز في علم الاجتماع في جامعة بغداد، حيث قلت له: “من سيكون بديلاً لصدام حسين، بعد أن أكدت وسائل الإعلام أن القوات الأمريكية سوف تحتل العراق؟ ألا تظن أن البديل سيكون أفضل؟” فرد قائلاً: “إن البديل سيكون الإسلاميين الراديكاليين، وهو البديل الأسوأ بالطبع”، وأضاف قائلاً: “إن مجتمعاتنا مستنيرة، لكن الإسلاميين يمتلكون القوة. فقد نجح صدام حسين في حظر كل الأفكار وقتل المثقفين، لذلك لا يوجد هناك خيار آخر سوى الإسلاميين، فهم الوحيدون الذين يستفيدون من هذه الحرب، وليس الديمقراطية والفكر الغربي والتنوير.”
على ضوء تلك الإجابة التي حصلتُ عليها من أستاذي الراحل، تغمده الله بواسع رحمته، أنظر مرة أخرى للمستقبل في عام 2016، وأتساءل من سيكون بديلاً لتنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)؟! وهل سنتمكن من إنتاج هوية جديدة نعيش في ظلها معاً، أم أننا سنقسم العراق بين عدة هوِيَّات ضيقة؟
وأول رد على هذا السؤال، هو أن ما أتوقع أن يحدث. وأما الرد الثاني، فهو يدور حول ما المفترض أن يقع، وما يمكن أن يحققه صناع القرار الدوليون من نتائج في هذا الصدد.
يتمثل السيناريو الأول في الخلافة الإسلامية الجديدة القوية التي يمكن أن تدعم قوة الإسلاميين، والتي لا يمكن وقفها، حيث أنها ستأتي بشخصيات أكثر قسوة، وأكثر عنفاً، وأكثر تعجرفاً من صدام حسين. أما الجنوب العراقي الشيعي، فسوف يشبه منطقة الأهواز الجديدة التي ضمتها إيران، والتي ستتشبث بها، نظراً لقوة نفوذ رجال الدين هناك. وبالتدريج، ستصبح إيران الحليف السياسي والاقتصادي لروسيا، كما أنها ستتحول إلى قوة عالمية في المنطقة، من خلال النفط والمال. وبعد ضم الجنوب العراقي، ستقوم إيران بإنتاج أربعة عشر مليون برميل من النفط يومياً. كما ستدفعها قوتها المالية الهائلة إلى استئناف مشروعها النووي، خاصة مع توافر الدعم الروسي، كما أن “خامنئي”، أو من سيخلفه، سيصبح أقوى زعيم في الشرق الأوسط، وستكون له الكلمة الأخيرة، وهو من سيحدد مصير المصالح الأوربية والأمريكية في المنطقة.
ومن المتوقع أن يشهد اليسار الكردي عدة تحولات جديدة، فلن يكون للقيادات الكردية الحالية دور في المستقبل، نظراً لأن الهدف من الاستقلال، سيكون قد تحقق بالفعل. ومع تراجع التيار القومي، ستقوى شوكة الإسلاميين، والذين لديهم بالفعل مناطق نفوذ على جميع الاطراف الكردية في: سوريا، والعراق، وحتى في تركيا. وقد يؤدى ذلك إلى صعود “أردوغان” الكردي الذي يلبي مطالب الجمهور الكردي، بالتنسيق مع الحقائق الجديدة في تركيا والعراق وإيران.
أما التيار السني المتبقي، فسيظل تحت قيادة راديكالية جديدة، وسوف يندمج في سوريا التي ستحكمها حكومة إسلامية مؤثرة، لديها القدرة على دعم أجندة إسلامية بقيادة “أردوغان”.
وبالتالي، سيتم تقسيم العراق ما بين الخلافات الجديدة، والتي تشمل الخلافة الإسلامية الإيرانية والخلافة الإسلامية التركية، حيث ستستغل تلك الخلافات انهيار العراق، لتوسيع حدودها السياسية وترسيخ قوتها. ومع ذلك، لا يمكن أن نتنبأ بالمستقبل السياسي لهذا الواقع الجديد.
أما بالنسبة للسيناريو الثاني، فإنني لا أتوقع حدوثه، لكني أود أن أطرحه. يتعين على العالم، ألا يسمح بإعادة إنتاج هذه الإمبراطوريات الرجعية، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تعزيز التطرف، ومن ثم، لا يجب أن يتم تفتيت العراق وتقسيمه بين دول تحكمها الأيديولوجيات الرجعية، مثل تلك التي يحكمها “خامنئي” و”أردوغان”. كما يتعين على الولايات المتحدة ألا تقوم ـ عن غير قصد ـ بدعم الفكر المتطرف. وعوضاً عن ذلك، هناك فرصة تاريخية لخلق عراق جديد، ينأى بنفسه عن الهيمنة الإيرانية ـ التركية.
أصبح العراق اليوم “دولة مريضة”، حيث تفشى الفساد في حكومتها التي أهدرت ميزانيته خلال ثماني سنوات من حكم “المالكي”، وهو ما يعادل جميع ميزانيات العراق ما بين عامي 1958 و2003، وقد قام الكثيرون بتهريب أغلبية تلك الأموال إلى دول، مثل لبنان بغية ضمان مستقبلهم السياسي.
إن ما يمر به العراق المريض اليوم، هو أشبه بما مرت به الدولة العثمانية المريضة قبل أن تنهار في عام 1925، والتي تحولت بعد ذلك إلى دولة تركية حديثة على يد “مصطفى كمال أتاتورك”. والعراق اليوم في حاجة أيضاً، إلى حركة “أتاتوركية” بملامح عراقية الشكل والتكوين؛ ولا ينبغي على تلك الحركة أن تكرر التجربة التركية، لكن عوضاً عن ذلك، يجب أن تعتمد على القوى العلمانية والمثقفين، وكذلك الجيش والقيادة القومية، وذلك لتأسيس هوية عراقية جديدة منفصلة عما يحيط بها من كل الجهات. كما يتعين على تلك الحركة أن تعد نفسها لقيادة حملة من أجل الاستقلال، وتطوير هوية “العراق أولاً”.
لقد أخذت توجهات الرأي العام تجاه الأحزاب الإسلامية العراقية تتدهور بسرعة، حيث يأتي غالبية دعمها من إيران وتركيا وقطر. ومن ثم، يتوجب على كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، التفكير في تطلعات الشعب العراقي، والعمل على خلق بديل جديد.
وهناك قوى على الأرض يمكنها الوقوف في وجه التطرف ومحاولات تقسيم العراق، وتتمثل في العشائر العراقية التي أيدت إقامة النظام الملكي في عام 1921 استناداً لتوصية “جيرترود بيل” للحكومة البريطانية. غير أن هذه القبائل، وإن كانت تمتلك قوة اجتماعية، فإنها تفتقر إلى القوة السياسية. لذلك، لا ينبغي أن تسيطر بسبب خطر تعرضها للفساد. وعوضاً عن ذلك، يجب أن تنضوي تحت قيادة مدنية علمانية، حيث يمكنها أن تصبح حركة مؤثرة لمواجهة الإسلاميين في جميع أنحاء البلاد.
ويمكن لتلك الحركة أن تضم بقايا الجيش العراقي ورجال الدين من السنة والشيعة الذين يعلنون رفضهم للـ “إسلاموية”. كما يمكن منح البعثيين الحقوق المدنية دون الحقوق السياسية، نظراً لأن دورهم السياسي في الوقت الراهن قد أصبح خارج نطاق الواقع.
إننا اليوم في أَمَسِّ الحاجة إلى إقامة تحالفات قوية وداعمة لهذا المشروع في واشنطن العاصمة. وفى هذا الصدد، يتعين على “الكونغرس” الأمريكي تمرير مشروع قانون يسمى “قانون حماية الديمقراطية”، والذي يهدف إلى وضع تفاصيل لانتخابات عام 2018، من خلال الإشراف المباشر للأمم المتحدة على لجان التصويت، ومنع الأحزاب من إدارة العملية الانتخابية.
لقد دعا العراق للتحديث قبل الدولة العثمانية، وكان هناك الكثير من المفكرين العراقيين في فترة العشرينيات الذين كتبوا عن أهمية تحديث العراق، وخلق هوية جديدة، وإعادته إلى عصر التنوير. كما كان يسعى هؤلاء المفكرون إلى استبدال القوة الأيديولوجية بالعلم، والكراهية بالحب. وأعتقد أن الفرصة قد أتت أخيراً لتحقيق ذلك التغيير على أرض الواقع.
هيثم نعمان
معهد واشنطن