كأيّ زعيم شرق أوسطيّ، يستعين زعيم تنظيم “الدولة الإسلاميّة/داعش” أبو بكر البغدادي (ابراهيم البدري) بأقاربه لحماية أمنه الشخصيّ، لكنّه يفقد منذ لحظة ظهوره الاستعراضيّ في مسجد الموصل في تمّوز/يوليو الماضي، الكثير من الحريّة في حركته، فيستعين بطرق غير تقليديّة للتمويه عن أماكن وجوده، ويبقي الجيل الجديد من القادة المتّصلين به مجهول، بعدما قتل خلال الأشهر الأخيرة قادة من الصفّ الأوّل المحيطين به.
يحدّد الباحث في مجال الجماعات المسلّحة هاشم الهاشمي لـ”المونيتور” خريطة من القادة المحيطين بالبغدادي، وأهمّهم أبو بكر الخاتوني من أهالي زمار في الموصل، وبعده الهاشمي الذي أصدر قبل أسابيع كتاباً بعنوان “عالم داعش” وهو من أبرز القادة المعتمد عليهم من قبل البغدادي لأنّه صديقه الشخصيّ، إضافة إلى نعمان الزيدي، وهو صديق شخصيّ آخر قتل في الأنبار عام 2011.
يقول الهاشمي: “مجلس البغدادي تكوّن من 18 قياديّاً قتل أغلبهم خلال عام 2014، وأبرزهم أبو عبد الرحمن البيلاوي وأبو أحمد العلواني ، وأبو مهنّد السويداوي، وأبو مسلم التركماني، إضافة إلى وزير أمنه أبو موسى الشواخ”.
ويؤكّد أنّ المتبقّين من المقرّبين من البغدادي أو الذين يعلمون مكانه الآن هم بدر الشعلان (سعوديّ) وتركي البنعلي (بحرينيّ) وأبو علي الأنباري (عراقيّ) وعثمان النازح (عراقيّ).
وتشير المعلومات التي حصل عليها “المونيتور” من داخل الموصل، إلى أنّ تحرّكات البغدادي محاطة بغموض شديد. فبعد ظهوره في الموصل، لم يسجّل له أيّ ظهور علنيّ، كما لم ينقل المقرّبون من التنظيم أيّ دلالة على اجتماعات حدثت بوجود البغدادي، أو زيارة قام بها الأخير إلى مكان ما.
وحسب هذه المصادر، فإنّ الأمر نفسه ينطبق على مدينة الرقّة السوريّة، التي تعرّضت مواقع فيها إلى قصف التحالف الدوليّ.
المرجّح حسب مصادر متعدّدة ويراه الهاشمي أقرب إلى المعقول، أنّ البغدادي يتحرّك في سلسلة قرى متناثرة على الشريط الحدوديّ العراقيّ- السوريّ، لأنّ هذا الموقع يتيح له مساحة آمنة إلى العمق السوريّ أو إلى الموصل وصحراء الأنبار خارج نطاق المتابعة.
في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تناقلت الأنباء أنّ البغدادي قتل بالفعل أو أصيب في غارة جويّة أميركيّة ضدّ تجمّع لشيوخ عشائر عقد لمبايعة تنظيم “داعش” في بلدة القائم الحدوديّة والتي ضمّها التنظيم إلى بلدة البوكمال السوريّة، وأطلق عليهما اسم “ولاية الفرات”.
واقع الحال أنّ الخبر لم يكن صحيحاً وتمّ نفيه في اليوم التالي، لكن ماهو صحيح، أنّ المعلومات التي استدعت الضربة الجويّة، كانت تشير إلى تحرّك أرتال متعدّدة من السيّارات المصفّحة والناقلات العسكريّة المحمّلة بالأسلحة من مناطق متعدّدة في بادية الموصل، حيث يشكّ في وجود البغدادي فيها، إلى القائم، وأنّ ذلك اقترن بقطع اتّصالات الهاتف المحمول، التي كانت قطعت أيضاً خلال خطبة البغدادي في الموصل، في 5 تمّوز/يوليو الماضي.
وحسب بعض المصادر، فإنّ الفريق الأمنيّ المحيط بالبغدادي يعمد إلى المزيد من التعقيد والتمويه في تغطية تحرّكاته، كما أنّ تحرّكه شخصيّاً لا يتمّ بأرتال كبيرة، وإنّما برفقة اثنين فقط من أبرز المخلصين له هما حسب الباحث هاشم الهاشمي، أبو طلحة الليبيّ، وأبو مقداد اليمنيّ، وأنّ تنظيم عمليّة التحرّك والاتّصالات المرافقة لها وتغيير خطط التنقّل تقع تحت مسؤوليّة شقيق البغدادي الذي يرجّح أنّ اسمه جمعة عواد البدري”.
خسارة البغدادي مجموعة من أهمّ قادته وانحسار نطاق تحرّكه، أجبراه على الاعتماد على شخصيّات غير معروفة في قيادة التنظيم، وتحويل الكثير من سلطاته إلى القادة الميدانيّين في تنظيمه، وهو الأمر الذي أنتج خلافات داخل التنظيم، تراها المصادر المقرّبة منه بداية لتصدّعه من الداخل.
اعتماد اللامركزيّة في اتّخاذ القرار داخل تنظيم “داعش” ليس أمراً جديداً، فهو يشكّل جزءاً من طبيعة التنظيم، خصوصاً في فترة عمله في شكل سريّ، واعتماده التنظيم الخيطيّ للتواصل بين عناصره وقادته، لكنّ الأمر اختلف مع تمكّن التنظيم من احتلال مناطق واسعة ومدن مهمّة كالموصل وتكريت والفلّوجة والقائم ومئات من القرى المحيطة بها. فهذا التوسّع يفرض نظام إدارة مختلف، ويتطلّب علاقة واضحة على مستوى المسؤوليّات، ليس على مستوى قيادة المعارك فقط، وإنّما على صعيد إدارة الحياة المدنيّة في تلك المدن والقرى.
يقول شهود من الموصل إنّ كفاءة الإدارة لقادة “داعش” تختلف من حيّ إلى آخر، حيث بات كلّ زعيم مسؤول في شكل مباشر عن منطقة ما يديرها، ويفصل في شؤونها، ويوجّه في حلّ مشكلاتها وتوزيع القطعات فيها في شكل منفرد عن قيادة التنظيم.
و تنازع الصلاحيّات في تنظيم “داعش” يتمّ عبر ثلاثة أوجه:
الأوّل: التنازع على القرار بين القيادات الميدانيّة العسكريّة والقيادات الدينيّة الشرعيّة.
الثاني: التنازع الشلليّ بين مجموعات عراقيّة، وأخرى عربيّة وثالثة أجنبيّة.
الثالث: التنازع داخل المجموعات الشلليّة نفسها حول الكفاءة وطبيعة القرارات.
إنّ قدرة تنظيم “داعش” على فرض نفوذه الحاليّ في المناطق التي استقرّ فيها ترتبط أساساً، بالخطر المشترك الذي يتعرّض إليه من داخل هذه المدن وخارجها، وكثيراً ما يبرر هذا الخطر إخماد النزاعات والخلافات، لصالح التعبئة العسكريّة.
ونطاق تحرّك البغدادي المحدود أجبره على أن يعتمد في شكل متزايد على طرق بدائيّة في الاتّصال وإيصال الرسائل، كنقل الرسائل الشفويّة أو استخدام شفرات معقّدة يتمّ تغييرها في شكل أسبوعيّ في تبادل الرسائل الإلكترونيّة والهاتفيّة، ممّا يضعف باستمرار قدرته على قيادة التنظيم في شكل مباشر.
وبرز ذلك أخيراً في محاولة التنظيم استقطاب المزيد من الكفاءات التكنولوجيّة التي تعكف على تطوير إمكانات الاتّصال من دون أن تتعرّض شبكة “داعش” إلى الرصد. بالرغم من استعاب بعض الكفاءت من قبل داعش لتلفي الاختراقات عبر الاتصال و التواصل داخل هذا التنظيم، لكن التنظم لم ينجح بهذه الجهود، ونجحت جهود التحالف الدولي بتوجية ضربات موجعة لهذا التنظيم.
إنّ جهود “داعش” في حماية شبكة اتّصالاته لا تنجح في معظم الأحوال، خصوصاً أنّ المعلومات المتوافرة تؤكّد أنّ العمليّات الأميركيّة التي استهدفت قادة في التنظيم، اعتمدت على رصد شبكات الاتّصال التي يعتمد بعضها على هاتف “ثريّا” الذي يتّصل مباشرة بالأقمار الصناعيّة، ممّا اضطرّ التنظيم إلى الأمر بإيقاف هذا النوع من الاتّصال إلّا للضرورات، والاعتماد أكثر على الرسائل الإلكترونيّة المشفّرة في الاتّصال مع الخارج، وعلى شبكة هواتف أرضيّة خاصّة بالاتّصال داخليّاً.
مشرق عباس – موقع المونيتور
مركز بيروت لدراسات الشرق الاوسط