قامت القوات التركية المسلحة، وبالتشارك مع القوات الخاصة والقوات الجوية، بعملية عسكرية في منطقة جرابلس لتخليصها من تنظيم الدولة، ونتيجة لهذه العملية انسحب تنظيم الدولة من المنطقة التي أصبحت تحت سيطرة الجيش السوري الحر.
نشهد تطورات سريعة، ولا شك أنّ التقارب التركي الروسي، والحراك الدبلوماسي بين تركيا وإيران، وضع الملف السوري على الطاولة من جديد بينهم، وكانت الأمور قبيل عملية جرابلس، تتجه إلى سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، التي يتكون غالبية عناصرها من وحدات حماية الشعب، اتجهت إلى السيطرة على جرابلس بعد السيطرة على منبج.
أكثر التطورات الملفتة للنظر، تمثلت بالتصادم بين قوات النظام ووحدات حماية الشعب في منطقة حسكة، حيث استخدم النظام لأول مرة قواته الجوية لاستهداف وحدات حماية الشعب، لكن الأخير نجح في إخراج جزء هام من قوات النظام من منطقة هامة غنية بالنفط والغاز.
وفي ظل هذه الأحداث، خرج نائب الرئيس الأمريكي ليقول بأنّ “المأساة السورية استمرت طويلة”، ودعا الأطراف والمعارضة والنظام إلى إنهاء هذه الأزمة، واستمرت أمريكا في اتباع سياسة ضعيفة تجاه سوريا.
من الواضح أنّ كلا من روسيا وأمريكا لم يعطوا الضوء الأخضر لحل الأزمة في سوريا، لكن الثابت هو أنهما لا يمكن أنْ يحلا الملف السوري دون التعامل مع الأطراف والقوى الإقليمية في المنطقة، مثل إيران وتركيا.
لا شك أننا نعيش تطورات هامة في سوريا، وأننا ربما على أعتاب مرحلة حساسة، لكن يتوجب علينا معرفة مواقف القوى الإقليمية وقراراتها، مع القوى الدولية والعالمية وأهمها روسيا وأمريكا.
ماذا يفيد الحل الإقليمي؟
يشير الحراك الدبلوماسي المكثف بين روسيا وإيران وتركيا، إلى أنهم يسعون “لحل المشاكل الإقليمية إقليميا”، لكن الأزمة السورية خرجت من كونها إقليمية منذ زمن طويل.
الغريب في هذا الحراك الدبلوماسي، هو أننا لا نسمع كثيرا اسم الولايات المتحدة الأمريكية فيه، لكن تصريحات كيري لا تشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد سحبت يدها، بل بالعكس، تشير إلى أنّ الأمور تزداد تعقيدا، وأنّ الحديث السابق عن فترة انتقالية في سوريا أصبح الآن وراء ظهورهم.
ماذا يريد كل طرف في سوريا؟
ترى تركيا بأنّ تقسيم سوريا، أو تشكيل وحدة جغرافية موحدة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وتوحيد الكنتونات فيما بينها وتشكيل هوية سياسية وإدارية هناك، بأنّ هذا يهددها، ولهذا لا تريد تركيا أنْ يكسب حزب الاتحاد الديمقراطي أي شرعية في سوريا من قبل الأطراف الدولية، وأصبحت قضية وجود الأسد من عدمه في سوريا بالنسبة لتركيا أمرًا ثانويًا، وهذا يقود إلى أنْ تقبل تركيا وجود الأسد في فترة انتقالية إذا كان ذلك يصب في مصلحة القضاء على التهديدات ومصادر القلق بالنسبة لتركيا.
وقد قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، التي تتشكل بغالبيتها من عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا يعني أنّ أمريكا تسعى إلى إيجاد دور بارز لحزب الاتحاد الديمقراطي ولقوات سوريا الديمقراطية في مستقبل سوريا، لكن عملية جرابلس ستؤدي إلى إضعاف حزب الاتحاد الديمقراطي والحيلولة دون توحيده للكنتونات، كما أنّ تركيا تسعى إلى زيادة دعمها للقوات السورية المعارضة من أجل منع توسع سيطرة النظام وكذلك الاتحاد الديمقراطي.
إيران هي الطرف الأكثر إصرارًا على وجود الأسد، حيث تحدث الخميني بأنّ الأسد بالنسبة لهم خط أحمر، وذلك عندما صدرت تصريحات عن روسيا تفيد بأنها لا تصر على وجود الأسد، وطهران ترى الأسد ليس بعنصر فاعل في سوريا فحسب، وإنما هو أساس لاستمرار وحدة وارتباط الخط الشيعي الإيراني السوري اللبناني (حزب الله).
لكن من جانب آخر، تُعتبر إيران هي الطرف الوحيد الذي يُشارك تركيا في القلق حول حزب الاتحاد الديمقراطي، وهذا ما تحدث به وزير الخارجية الإيراني ظريف في زيارته الأخيرة إلى أنقرة.
بينما لا يوجد إصرار لدى روسيا حول شخص الأسد، فما يهم روسيا هو المصالح الخاصة بها في سوريا والتي لا يُمكن أنْ تستغني عنها، ولذلك تملك روسيا ليونة في تعاملها مع الملف السوري، لكن مع ذلك لا يُمكن الانتظار من روسيا مشاركة تركيا في مكافحة حزب الاتحاد الديمقراطي، لأنّ روسيا لا تعتبر حزب العمال الكردستاني حزبًا إرهابيًا، وهذا يقود إلى أنّ تعامل روسيا مع حزب الاتحاد الديمقراطي لن يتم وفق ما تقوم به تركيا تجاهه، بل وفق ما تقوم به أمريكا، وفي اللحظة التي تُدرك فيها روسيا بأنّ أمريكا سيطرت تمامًا عليه والاتحاد الديمقراطي أعطى ولائه بصورة تامة للأمريكان، فحينها ستقلل الدعم المقدم له من طرفها.
أما بالنسبة للمصالح الروسية في سوريا، فإنّ روسيا تسعى وراء أربعة اهداف؛ أولها، هو جعل وجودها دائم في سوريا، وذلك من خلال إبقاء قواعدها، وهدفها الثاني يتمثل في أنْ توجد نظامًا سياسيًا وإداريًا تملك فيه الأقليات (الأرثوذكس، المسيحيون، العليون) دورًا فاعلاً، حيث تعتبر روسيا نفسها الحامي التاريخي للأقليات، أما هدفها الثالث، فهو أنْ تكون روسيا فاعلة وصاحبة كلمة في شرق المتوسط، وهدفها الرابع، يتمثل في أنها تريد استخدام الملف السوري في المفاوضات مع أوروبا وأمريكا حول موضوع أوكرانيا وشرق أوروبا، ولهذه الأسباب تسعى روسيا إلى الاتفاق مع القوى العالمية وهي أمريكا، أكثر مما تسعى إلى الاتفاق مع القوى الإقليمية.
أمريكا تسعى في سوريا إلى إيجاد معارضة مرتبطة بها بصورة مباشرة، وتمثل وحدات حماية الشعب العمود الفقري لهذا التكوين، ولذلك تسعى أمريكا إلى أنْ يكون هناك دور بازر لقوات سوريا الديمقراطية في مستقبل سوريا، حيث تُعتبر هذه القوات تابعة لأمريكا بصورة تامة. وكون هذه المعارضة تتبع النهج العلماني، فإنها تحظى بدعم أمريكي.
ولهذا فإنّ على تركيا ألا تنتظر من أمريكا تغيير موقفها بصورة كبيرة تجاه قوات سوريا الديمقراطية وما تحتويه من عناصر وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي، وأكثر ما يُمكن أنْ تقوم به أمريكا، هو ألا توافق ولا تسمح لوحدات حماية الشعب بالوصول إلى غرب الفرات، لكن هذا يعني أنّ أمريكا توافق على شرعية تواجد حزب الاتحاد الديمقراطي في عفرين وشرق الفرات.
ولهذا فإنّ حديث تركيا مؤخرًا عن أنها قد توفق على مرحلة انتقالية بوجود الأسد، لا يقوي الموقف التركي، ولا يعكس ليونته، بل على العكس تمامًا، هذا يوحي بأنّ تركيا تريد حلاً للأزمة مهما كان، وأنّ مجال تركيا للمناورة في سوريا قد ضاق عليها، وأنّ يدها ضعفت على طاولة الملف السوري.
وربما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتوسيع إطار استخدامها وصف “الإرهاب” ليطال أكبر عدد ممكن من الجماعات المعارضة، وذلك لتسهيل أعمال قوات سوريا الديمقراطية، وقد تستخدم هذه الأداة من أجل الضغط على روسيا أكثر.
كما أنّ أمريكا تحاول جاهدة أنْ لا يبقى أي تأثير لأي قوة إقليمية في سوريا، وتفضل السيناريو الذي يقود إلى إيجاد نفوذ محدود للقوى الفاعلة في سوريا، وانسحابها من المشهد السوري، وأمريكا ترى نفسها بأنها القوة العظمى التي تفوق جميع القوى العالمية والإقليمية، وأنها تريد أنْ تبقى مهيمنة، وأنْ تملك بيدها رسم المعادلات.
ما الحل الذي يرضي أمريكا وروسيا في سوريا؟
ستتفق روسيا وأمريكا على حل للأزمة السورية، ثم سيقومان بالجهود المطلوبة من أجل إقناع الأطراف الإقليمية بقبول هذا الإطار الذي اتفقت عليها روسيا وأمريكا فيما بينهما، لكن المشهد الحالي يشير إلى أنّ روسيا وأمريكا تفضلان التنازع الخفيف فيما بينهما على حل الأزمة، وهذا يعني بأنّ تدخلهما سيستمر لفترة أطول.
ربما تتفق أمريكا وروسيا على حل في سوريا من خلال النقاط التالية:
– أنْ يكون النظام القادم في سوريا علمانيًا.
– أنْ يكون النظام القادم والنظام الإداري لا مركزي، وهذه النقطة تحدثت عنها روسيا بوضوح، وأمريكا من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية تثبت أنها تريد ذلك أيضًا.
– من المحتمل أنْ يتفقا على توسيع استخدام وصف الإرهاب، بحيث يطلقونه على كل مجموعة إسلامية لا تروق لهم، وبذلك سيكون دورهم ضعيفًا في المشهد السوري المستقبلي.
ماذا تستطيع تركيا أنْ تفعل؟
ماذا تستطيع تركيا أنْ تفعل حيال هذا الأمر؟ أولا: على تركيا أنْ تدافع على إثبات وإعطاء الحقوق لكل أطياف الشعب السوري، والتركيز على ضمان ذلك من خلال الدستور، وذلك كون الطرفان الروسي والأمريكي يسعيان لتحقيق نظام سياسي لا مركزي.
ثانيا: تستطيع تركيا تأمين الممر إلى حلب من خلال عمليتها في جرابلس.
ثالثا: على تركيا أنْ تعترض بقوة على توسيع استخدام وصف الإرهاب على المنظمات السورية، والحيلولة دون إبقاء هذه الأطراف السورية خارج المشهد، كما يتوجب عليها تجميع كل قوى المعارضة السورية في الشمال السوري تحت إطار واحد، وهنا تستطيع تركيا الاستفادة من دعم دول إقليمية ثانوية مثل السعودية وقطر.
بينما من المتوقع أنْ تدعم إيران استخدام أمريكا وروسيا لملف وصف الإرهاب وذلك لأنّ المتوقع إطلاقه على المجموعات السنية.
وفي النهاية علينا ألا نعطي أهمية كبيرة للمحاولات الروسية الإيرانية التركية لإيجاد حل إقليمي، لأنّ الملف السوري خرج منذ زمن طويل من كونه ملفًا إقليميًا، وروسيا ستفضل في نهاية المطاف حل هذه القضية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ولهذا فإنّ حديث تركيا مؤخرًا عن أنها قد توفق على مرحلة انتقالية بوجود الأسد، لا يقوي الموقف التركي، ولا يعكس ليونته، بل على العكس تمامًا، هذا يوحي بأنّ تركيا تريد حلاً للأزمة مهما كان، وهذا سيقود إلى تضييق مجال المناورة بالنسبة لتركيا، وإلى إضعاف يدها على الطاولة السورية.
غالب دالاي
المصدر:الجزيرة ترك