يحضرني عن الروائي البرتغالي الحائز على (نوبل)، خوزيه ساراماغو، وصفه رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، سيلفيو بيرلسكوني، الذي دين بقضايا فساد، بأن “الفساد ليس رذيلته الوحيدة، وهو أيضاً ليس الوحيد بين سياسيين فاسدين عديدين”. ولعل من باب توارد الخواطر أن نسمع، في مجالسنا الخاصة، من يتناول بالنقد سيرة أحد مسؤولينا النافذين الذين وضعتهم مصادفة ماكرة في قمة السلطة، ليحكم في النهاية على أن الفساد ليس رذيلته الوحيدة، كما أنه ليس الوحيد بين سياسيين فاسدين عديدين.
هكذا، اذن، أصبح الفساد ظاهرةً مألوفة في العراق، لكن خطورتها الأكبر أنها تحولت إلى داءٍ معدٍ، أصاب القريبين من رجال النخبة الحاكمة، بمن فيهم أبناؤهم وأفراد أسرهم وأقاربهم ربما إلى الدرجة العاشرة، وامتدّت العدوى إلى المحيطين بهم، والموظفين الصغار أيضاً، وانتشرت فضائح الرشوة والاحتيال والتزوير وبيع المناصب الوزارية والوظائف المرموقة والرتب العسكرية والمواقع الدبلوماسية وشرائها، إلى درجة أن المساومة على منصب، أو حتى وظيفة صغيرة، أضحت أمراً لا يخرج عن المألوف. وتعدّدت الرذائل لدى كل هؤلاء، ولم تعد تشكل مثلبةً أو نقيصةً، ولم يعد الواحد منهم يتورّع عن أن يعترف أمام الكاميرات بأنه ليس الوحيد الذي ارتشى. وليس الوحيد الذي سرق. وليس الوحيد الذي قبض عمولات عقودٍ ومقاولات، وكأن الاعتراف الصريح يعفيه من عقوبة الله وحكم التاريخ، وإذا ما أحيل إلى استجوابِ أو تحقيق، ونشر الخصوم غسيله القذر، لسبب سياسي أو شخصي، أو هدّد بفقدان موقعه، أخذته العزة بالإثم، زاعما أن لديه ملفات تطيح رؤوساً كبيرة إذا ما …، وتبقى العبارة ناقصة.
أرست هذه الظواهر تعايشاً هشّاً بين رجال الحكم الكبار، وتابعيهم داخل ما يسمونها “مؤسسات الحكم الديمقراطي”، البرلمان والوزارات والرئاسات، وحتى أجهزة الإعلام والرقابة المدنية، وأصبح الانتقال من الحال إلى نقيضها مسلكاً يومياً لديهم، تكشفه التصريحات المراوغة والادعاءات الفارغة والاتهامات المتبادلة، ومن يدفع ثمن كل هذه الأخطاء والخطايا هو نحن، المحكومين بقضاء الله وقدره، حيث لم نعد نجد فارقاً بين من يتشيع من رجال الحكم، لابسًا السواد في عاشوراء، باكياً بدموع التماسيح عند مرقد الحسين، ومن يتسنن منهم لابساً البياض، معتمراً في رحاب المسجد الحرام، فالكل سواء في ارتكاب الخطايا واقتراف الذنوب.
ومثلما لكل لعبة نجومها، فان للعبة الفساد نجومها هي الأخرى، وهم الذين تعلموا أسرارها وخباياها على امتداد السنوات العجاف التي أعقبت (تحرير) البلاد، وتفننوا وحذقوا فيها إلى درجة أنهم لم يعودوا في وارد الخوف من مستقبلٍ يطيحهم هم وثرواتهم التي نهبوها، وقد وجدوا وسط الانكماش الكارثي لحياة مواطنيهم فسحةً كبيرةً للتنقل، هنا وهناك، بحثاً عن مزيد من المكاسب والأرباح، بعدما حولوا البلاد إلى شركةٍ مساهمةٍ خاصة، تغدق بالأرباح على أعضائها!
وإذا ما شعر أحدهم بهزةٍ أو ركلةٍ من الخلف قد تدفع به إلى الهاوية حزم حقائبه، وطار إلى خارج الحدود، طلبا للبركة وبحثاً عن كفالة موقعه، فعلها نوري المالكي، يوم اشتد به الخطب، بعد انكشاف تواطئه في واقعة سقوط الموصل، وفعلها سليم الجبوري بعد اتهامات الفساد التي واجهها، وفعلها أسامة النجيفي بعد الحديث عن مسؤوليته في سقوط الموصل، وفعلها قبلهم وبعدهم سياسيون ومراجع ورؤساء عشائر، ورجالٌ نافذون في هذا الوسط أو ذاك. وقد جرى هذا كله ويجري باسم الدين، وتحت أغطية المرجعيات التي تبرّر الأمور وتسهلها، ما دامت لها حصة في الرزق المقسوم، تاركةً الملايين المحرومة الباحثة عن عدل السماء، بعد أن افتقدته على الأرض، تمارس طقوسها في مسيرات اللطم والنواح الموسمية، انتظارا للمهدي الذي يأتي ولا يأتي.
وإذا كان ساراماغو يؤمن، كما قال، بأنه “بعد خيباتٍ كثيرة، يظل من الممكن أن يصل إلينا خبر جيد”، فإننا ندرك، بعد أهوال السنوات العجاف التي أعقبت (تحرير) البلاد، بأن وصول خبر جيد إلينا بات شبه مستحيل، إلا إذا صحّ تحذير مسعود بارزاني من أنه سيقلب “العملية السياسية” الماثلة عاليها سافلها، إذا ما تم تجاوز خصومه (حلفاؤه؟) الخطوط الحمر، عند ذاك سنرقب بأسهم بينهم، ولسوف تلوح لنا في آخر النفق بوارق أمل..
الفساد ليس رذيلتهم الوحيدة
عبد اللطيف السعدون
العربي الجديد