تمارس الولايات المتحدة سياساتٍ تنطلق من حقل بنيوي، تنفرد بتحديد مكوّناته التي تعرّفها انطلاقا من عاملين. أولاً، الظروف القائمة داخله ومن حوله وعلى امتداد العالم، والتي تأخذها جميعها بالحسبان، بما فيها تلك السلبية بالنسبة لها، بما في ذلك الذاتية والعامة، تلك الطارئة أو النهائية والقطعية، وغير القابلة للمراجعة أو التعديل والتطوير. وثانياً، الأهداف المطلوب تحقيقها من هذا الحقل البنيوي، الذي ترفض واشنطن السماح لأيٍّ كان بإقامة أية توازنات دائمة فيه، ومشاركتها في رسم حدوده، وطرق اشتغاله، والنتائج التي يجب أن تترتب عليه، بالنسبة لها أو بالنسبة للأطراف التي تقرّر إدخالها إليه أو إخراجها منه، والتي يراد لها أن تلعب فيه أدواراً ترسم لها بدقة، تحدّد وحدها طبيعتها وأبعادها، ومتى تبدأ وتنتهي، وهوية فاعليها الرئيسيين في كل مراحل اشتغالها، وبأية طرقٍ ووسائل يتم احتواء الآخرين، أو إخراجهم منها، كباراً كانوا او متوسطين أو صغارا، ومتى يتم تعديلها أو استبدالها بحقل بنيوي جديد، تتطلب إقامته تطورات معينة، مفصلية وانعطافية، وعلاقات تبدلت مع القوى الدولية والإقليمية والمحلية المنضوية فيه أو المبعدة عنه.
هذا الحقل البنيوي، الذي يعتبر التوازنات مع الآخرين حالةً مرفوضة وعابرة، لا بد أن ينصب جهد واشنطن على إلغائها، تقيمه أميركا عادةً من خلال مقارباتٍ متنوعة، كثيراً ما تبدو للمراقب الخارجي، أو السطحي، مفكّكة وعديمة الترابط، وغارقةً في التخبط والارتجال، في حين يكون دهاقنة المؤسستين العسكرية/ الأمنية والسياسية منكبين على حبك خيوطها الرئيسية وإخفائها، وإضافة مفردات إليها، تحدث نقلات وتفاعلات تراكمية فيها، تقربها في كل خطوةٍ من الهدف: تأسيس الحقل البنيوي الذي سرعان ما يجد ضحاياها أنفسهم أسرى له، ومحكومين بأدوار مرسومة بدقة لهم، يفتقرون إلى القدرة على رفضها أو تعديلها، وإلى المعرفة بفنون إدارتها، في حين تتحكم واشنطن بحساباتهم، وتضبط إيقاعهم، وتحدّد نمط مصالحهم وحدودها، قبل أن يأتي زمن إنهاء أدوارهم فيها، والإتيان ببدائل لهم، يقومون بما لم يعد في وسعهم هم القيام به، في خدمة مصالح أميركا بطبيعة الحال.
واليوم، يدخل الوضع السوري الذي انضوى، بعد الثورة بأشهر قليلة، في حقل بنيوي أميركي حكم حركته، وحدّد العوامل المتحكمة بمصيره، في لحظةٍ انتقاليةٍ، لأن أميركا قرّرت، كما يبدو، القيام بخطوةٍ جديدةٍ في سياساتها تمكّنها من ترجمة ما أنجزته، في السنوات الخمس الماضية، على أرض الواقع من سيطرةٍ على الحدث السوري وتفرّعاته الإقليمية والدولية، تحولت معه من جهةٍ أخرجت من العراق إلى جهةٍ استعادت دورها فيه، من خلال البوابة السورية، ونجحت في تجريد خصومها من عناصر قوتهم، وفي إيجاد بيئةٍ استراتيجية جديدة، مكان العرب فيها هامشي، إن بقي لهم فيها مكان، ركيزتها تنسيق إسرائيلي/ إيراني ضد العرب، تمسك هي بخيوطه، يعبر اكتماله عن نجاحها في تأسيس حقلٍ بنيويٍّ عابر للمنطقة التي قرّرت التموضع فيها، والسيطرة عليها منذ سبعينيات القرن الماضي، واستخدمت تحكّمها بأدوار المتصارعين فيه، لارساء مفرداته ، بحجة عدم التدخل في صراعاتهم، بيد أنها لم تفلت زمام الأحداث والتطورات لحظة واحدة ، ولم تسمح بخروج أي دورٍ عمّا رسمته من طرقٍ تسهل الانتقال إلى الحقل العتيد الذي يقوم، منذ أعوام، بفضل قدرتها على دفع المنطقة إلى عملية تفكيكٍ مضبوطةٍ، كان لا بد أن تسبق عملية إعادة تركيبها منطقةً، تختلف مقوماتها وكياناتها السياسية كثيراً عن مقوّماتها وكياناتها الراهنة، بالإفادة من سياسات الفوضى الخلاقة التي أعلنت تبنّيها لها عام 2003، في ذروة مأزقها العراقي، وجدد الرئيس باراك أوباما سبل مقاربتها، من دون أن يغير أهدافها، ولم يفلت أيٌّ من خيوطها، سواء قبل التدخل الروسي في سورية أم بعده، وها هو يدفع بها يومياً نحو مآلٍ يأخذها إلى ما بعد المسألة السورية، من دون أن يخرجها منها، بفضل قواعد عسكرية أقامها جيشها شمال سورية، المطل على العراق وإيران وتركيا، وما له من نفوذٍ مقرّر في منطقة حوران، حيث يتداخل تأثيرها ويتكامل مع حضور إسرائيل: حليفتها التي ستتلقى 38 مليار دولار، ثمن أسلحة جديدة تشتريها منها، على الرغم من قضاء الأسد على عدوها: سورية الدولة والمجتمع، وما أتاحه لها تدميرهما من تفوقٍ كاسح على بيئتها المجاورة والبعيدة، التي لن يتحدّاه أحد منها خلال عقود كثيرة مقبلة، وتربّعها الآمن في الجولان، وثقة واشنطن بأن روسيا لن تبني في سورية جيشاً قادراً على تحدّيها، في حال قامت ببناء جيش.
نحن اليوم في مرحلة انتقال إلى هذا الحقل البنيوي الذي أخذ تكوّنه يتسارع، بحجة الحرب ضد الإرهاب ونتيجة لها. ومن المؤكد أن العرب سيدفعون الثمن الأكبر لتكونه، على الأقل لأنه يدخلهم في استنزاف/ تفتيتي يدمر اليوم سورية. ومن المرجح جداً أن تكون مجتمعات العالم العربي وقود مراحله التالية. المشكلة أن مواجهة هذا الحقل لا يمكن أن تنجح من دون حقلٍ له بنية متكاملة مضادة له، وأن أميركا تعتمد إيران وإسرائيل فاعليْن إقليميين رئيسيين ضد العالم العربي، وأن العرب لا يشعرون بعد بحدوث هذا الانتقال. لذلك، لا يبادرون إلى فعل أي شيء لمواجهته، بل يكتفون بالتلاعب بمصيرهم، من خلال المسارعة إلى الانضواء في الخطط الأميركية، التي تستهدف إقامة الحقل البنيوي الجديد، المعادي لهم، على الرغم مما تفعله بهم في سورية، وتحول مأساة شعبها، منذ وقت طويل، إلى مأساة عربية مزدوجة، حدها الأول عزوف العالم العربي عن وقف كارثتها، على الرغم مما تلحقه به من أضرار وتحمله له من مخاطر، وحدّها الثاني انفراط ما هو باقٍ من عقده، في سياق ما يتطلبه قيامه من انتهاكٍ للقوانين والأعراف وللقيم المحلية والدولية، ويرتكب من جرائم ضد المواطنين العرب، لم تعد توفر أحداً منهم، وتدمر بلدانهم واحداً بعد آخر.
لا تكبح وتحبط البنية الأميركية بغير بنية عربية مضادة، ما لم نقم بنية تنجينا من الأخطار، وتصحو نخبنا السياسية والثقافية، أخيراً، من غفلتها، وتقبل شعوبنا سياقاتٍ سياسية وفكرية ومفاهيم جديدة وفاعلة، تساعدنا على الخروج من بؤسنا القاتل. لن يكون أمامنا، على الأرجح، غير إكمال طريقنا إلى عصر جديد، هو عصر ما بعد العرب.
ميشيل كيلو
صحيفة العربي الجديد