تناول ملف “السياسة الدولية” في هذا العدد قضية التنظيم الإقليمي، في ضوء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتفاقم الجمود في جامعة الدول العربية، ورتابة أداء بعض المنظمات الإقليمية الأخري.
غير أن أزمة التنظيم الدولي لا تقل حدة عن مشكلة التنظيم الإقليمي، بل ربما تزيد، فضلا عن أن خطرها أكبر في مرحلة اضطراب وارتباك في النظام العالمي، وفي فترة تموج فيها منطقة الشرق الأوسط بصراعات متفاوتة الحدة، تدفن في ثنايا بعضها مبادئ أساسية قام عليها هذا التنظيم، منذ بزوغه عقب الحرب العالمية الثانية، مثل السيادة، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، فضلا عن حقوق الإنسان في السلم والحرب علي السواء. فكم من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية ترتكب في بعض هذه الصراعات، خاصة في سوريا، ويروح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، وتقف الأمم المتحدة أمامها موقف المتفرج العاجز حتي عن إدانتها.
وهكذا، لا يقتصر عجز الأمم المتحدة علي فشل ممثلي أمينها العام في إيجاد بصيص نور في نهاية الأنفاق المظلمة التي دخلتها هذه الصراعات، بل يشمل أيضا إخفاقها في وضع حد لجرائم مريعة تشهد علي موت “الضمير العالمي”.
وعندما يصدر هذا العدد، تكون الدورة الحادية والسبعون للجمعية العامة للأمم المتحدة قد أوشكت علي الانتهاء، دون أن يشعر أحد بها، وفي غياب اهتمام يذكر بكل ما يتعلق بنشاطات الأمم المتحدة، بما في ذلك انتخاب أمين عام جديد لها، بعد انتهاء الفترة الثانية للسيد بان كي مون، الذي لم يفعل، خلال عشر سنوات، أكثر من التعبير المستمر عن قلقه إزاء أحداث دولية مريعة، تعامل معها بطريقة روتينية عقيمة ومؤسفة.
والأرجح أن تستمر الأمم المتحدة علي هذا النحو إلي أن يحدث أمر جلل في العالم يفرض تغييرا في فلسفة التنظيم الدولي. ولذلك، فهي تشبه من بلغ سن التقاعد. ولكن عدم وجود بديل عنه يؤدي إلي استمراره بشكل روتيني إلي أن يتيسر هذا البديل.
شيخوخة المنظمة الدولية:
دخلت منظمة الأمم المتحدة، منذ فترة غير قصيرة، مرحلة الشيخوخة التي تزداد أعراضها تدريجيا. وتبدد آخر أمل في معالجة بعض أمراضها، بعد أن انتهت دورتها السبعون في العام الماضي، دون أن تقدم جديدا، وأحبطت ثورة التوقعات التي سبقتها. فقد أعيد في تلك الدورة إنتاج السيناريو الذي لا يختلف من دورة إلي أخري، علي مدي العقدين الأخيرين علي الأقل، إلا في بعض تفاصيله. وتتمثل الملامح العامة لهذا السيناريو في كلام بلا عمل إلا فيما قل، وأوراق ووثائق مكدسة يطويها النسيان إلا فيما ندر، وقرارات لا يجد بعض أهمها، وأكثرها انسجاما مع ميثاقها طريقا إلي واقع دولي تحكمه عوامل القوة التي صارت عارية في معظم الأحيان من أي غطاء قانوني أو أخلاقي.
استمدت الدورة السبعون أهميتها من الطابع الخاص للدورات التي تعقد في ختام كل عقد في عمر الأمم المتحدة. ولكن المدي الخطير الذي بلغته أزمة الأمم المتحدة أضفي علي تلك الدورة أهمية أكبر من زاوية أنها كانت فرصة ربما لا تعوض لتصحيح الاختلالات التي جعلت الأمم المتحدة مبني بلا معني، واتخاذ خطوة جادة نحو إجراء الإصلاحات التي شُكلت لجان لبحثها منذ تسعينيات القرن الماضي. غير أنه كما جرت العادة، فقد انتهت الدورة بقرارات وإعلانات براقة تضاف إلي مئات، بل آلاف سبقتها. وبقي الوضع بعدها علي ما كان عليه، كما يتضح في الدورة الحادية والسبعين.
والحال أنه كلما تفاقمت الأزمات، ازداد انكشاف الأمم المتحدة، وتجلي ضعف أداء أجهزتها كافة بدرجات متفاوتة، وتوسع نطاق الخروقات لقراراتها، وتحولت وظائفها إلي طقوس شكلية. وإذا أخذنا الشرق الأوسط مثالا، فسنجد أن هذه الحالة لم تعد مقصورة علي قضية فلسطين، التي حفظت في الأدراج عشرات القرارات بشأنها، بل صارت حالة عامة في مختلف الأزمات. ولذلك، لا يثير استغرابا الآن أن يتعامل مبعوثو السكرتير العام للأمم المتحدة مع الأزمات المكلفين بالسعي إلي حلها بطريقة الموظف الإداري الذي لا يعنيه أكثر من رفع تقارير عن مهمته، بغض النظر عن محتواها، وأن يتحركوا علي وقع قرقعة السلاح، ووفق الموازين التي تنتج عن استخدامه، وأن يضعوا هذه الموازين وفق المواثيق، والقواعد، والقرارات التي ينبغي أن يحتكموا إليها.
ولذلك، لم يعد مدهشا أن يتعامل بعضهم مع انتهاكات فادحة لميثاق الأمم المتحدة، وجرائم بشعة تزهق فيها أرواح مدنيين كل يوم، كما لو أنها من طبائع الأمور.
وعودة إلي الدورة السبعين، التي أُحبطت آمال علقت عليها، ليس متوقعا أن يكون مصير قضية “التنمية المستدامة”، التي تصدرت أعمالها، أفضل حالا من “إعلان الألفية” الذي استهدف معالجة مشاكل الفقر والتفاوت الاجتماعي في العالم، علي نحو أعطي انطباعا زائفا في حينه بأن “الضمير العالمي” بدأ في الاستيقاظ.
وليس هذا غريبا، فـ “التناسي” يعد أحد أهم مفاتيح فهم أزمة الأمم المتحدة في كثير من جوانبها. ولذلك، يتناسي من أعدوا في العام الماضي خطة التنمية المستدامة، التي تعد بعالم أفضل خلال 15 سنة، “إعلان الألفية”، الذي سبق إصداره بهدف معالجة مشاكل الفقر في العالم، خلال 15 عاما أيضا، وتضمن الكثير من الوعود الرائعة أبسطها (التصميم علي أن تنخفض إلي النصف بحلول 2015 نسبة سكان العالم الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، وأن يتمكن جميع الأطفال في العالم في العام نفسه من إتمام مرحلة التعليم الابتدائي).
وحفل “إعلان الألفية” بـ “اعترافات” نادرة لا تصدر إلا في لحظة من لحظات الضمير الذي لم يعد له اليوم مكان في عالمنا، مثل الاعتراف بأن الفقراء يزدادون فقرا، بينما يصير الأغنياء أكثر ثراء. كما أفرط في تقديم وعود بألا يحل عام 2015 إلا ويكون العالم قد أصبح أكثر إنسانية.
ومن بين هذه الوعود مثلا (عدم حرمان أي فرد أو أمة من فرصة التنمية)، و(التضامن في مواجهة التحديات العالمية عبر توزيع التكاليف والأعباء بصورة عادلة). ولكن أهم تلك الوعود كان (التصميم علي أن تنخفض إلي النصف بحلول عام 2015 نسبة سكان العالم الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، وأن يتمكن جميع الأطفال في العالم في العام نفسه من إتمام مرحلة التعليم الابتدائي).
ولأن هذا الإعلان يشبه “الجواب” الذي يظهر من عنوانه، فقد كان واضحا مدي خوائه، فقد خلا من تحديد سياسات تلتزم بها الدول الكبري، والشركات العملاقة للحد من التفاوت بين الشمال والجنوب، وتوجهات تتبعها كل دولة للحد من هذا التفاوت داخلها.
كما لم يتضمن الإعلان أي ترتيبات مؤسسية لمتابعة التطور الذي كان مفترضا أن يحدث بشكل تدريجي في تنفيذ “إعلان الألفية”، فضلا عن محاسبة من ألقوا بهذا الإعلان في أول صندوق قمامة صادفهم في طريق عودتهم من قمة نيويورك.
ولذلك، ليس غريبا أن ينتهي “عقد الألفية” بفشل لا يكفي أن نعدّه كاملا. لم يقتصر الفشل علي عدم إحراز أي تقدم باتجاه تحقيق أي من الوعود التي أفرط فيها، فقد حدث إخفاق أيضا في وضع حد لتنامي الفقر، وازدياد شراسته، وتوسع نطاق التفاوت الاجتماعي الذي صار أكثر حدة اليوم مما كان عليه عام.2000 وهذا فشل أقل ما يوصف به أنه فاضح، بعد أن أصبح أقل من 1٪ (0.7٪) من سكان العالم فقط يملكون 44٪ من الثروة العالمية.
وتحفل الخطة “الجديدة”، التي أقرت في العام الماضي بشأن التنمية المستدامة، بوعود مماثلة، وأخري مزيدة. ويتعهد من أعدوها بتحقيق 17 هدفا، ورد نحو نصفها علي الأقل في “إعلان الألفية” الذي لم يعد له ذكر بعد قليل من إعلانه، وفي مقدمتها القضاء علي الفقر، وتأمين التعليم، والرعاية الصحية للجميع، وتشجيع النساء، ومواجهة آثار التغير المناخي، وغيرها.
وقد أُعدت هذه الخطة بدون مناقشة العوامل التي أدت إلي إحباط “إعلان الألفية”، وكأن الأمم المتحدة تتعامل مع عالم افتراضي بعيد عن عالم الواقع، وتطوراته المؤلمة. ولذلك، فمن الطبيعي أن تثار أسئلة حول جدوي إصدار خطة طموح براقة بدون استعداد لتوفير مستلزمات تنفيذها. غير أن السؤال الأكثر أهمية هو عن جدوي المنظمة التي تفعل ذلك أصلا.
هل نفدت فرص الإصلاح؟
رغم كل المعطيات والشواهد التي تدل علي أن منظمة الأمم المتحدة لم تعد مجدية في حالتها الراهنة، وهي عاجزة حتي عن الالتزام بميثاقها، فضلا عن الفلسفة التي يقوم عليها، والمبادئ الكبري التي يستلهمها، يظل ضروريا السعي إلي تحقيق أي قدر من الإصلاح فيها، مادام استمرارها مفروغا منه حتي حدوث تغيرات كبري في العالم، تنهي هذه المرحلة، وتلقن البشرية درسا جديدا.
وقد وجد بعض من لا يزال لديهم بصيص من الأمل في أي قدر من الإصلاح أن إجراء تغيير جزئي في آلية اختيار الأمين العام للأمم المتحدة يمكن أن يفتح بابا لهذا الإصلاح. غير أن محدودية هذا التغيير تجعله شكليا لا يحمل في طياته جديدا، ولا يرقي إلي التصور الذي طرحه الأخضر الإبراهيمي، وماري روبنسون في مقالتهما التي نشرت في آخر يوليو 2016 بشأن الحاجة إلي ما أطلقا عليه “أمين عام قوي لقيادة الأمم المتحدة”.
والأمين القوي للمنظمة الدولية في تصورهما يحظي بالكفاءة، ويجمع بين الاستقلالية والقدرة علي التعامل مع القوي الكبري علي أساس الاحترام المتبادل، ويملك المهارة اللازمة لتحقيق توافقات دولية في القضايا الكبري، والأزمات الخطيرة، ويتمتع بقوة أخلاقية حقيقية، لكي يعيد الثقة والصدقية إلي هذه المنظمة.
غير أن التغيير الجزئي في آلية اختيار الأمين العام للأمم المتحدة لا يكفي لتحقيق الحد الأدني من هذا التصور، رغم أنه يضفي قدرا من الشفافية في عملية الاختيار، ويوفر لها بعض العلنية التي افتقدتها منذ تأسيسها، حيث كان التداول بشأنها محصورا في اجتماعات مغلقة يعقدها مجلس الأمن.
ويتمثل التغيير في عقد جلسات استماع علنية للمرشحين لمنصب الأمين العام، لكي يقدم كل منهم نفسه، ويشرح ما يعنيه هذا المنصب بالنسبة إليه، وتصوره لمستقبل الأمم المتحدة، وكيفية تفعيل دورها. ويسعي كل مرشح بالتالي لأن يطرح تصورا يلفت الانتباه، ويعرض قدراته القيادية، الشخصية والموضوعية، في محاولة لكسب العقول والقلوب. كما عقدت، حتي كتابة هذه الافتتاحية -مناظرتان تليفزيونيتان علي الهواء، ضمت كل منهما خمسة مرشحين، وتم بثها علي الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة. كما أجري، حتي كتابة الافتتاحية أيضا، اقتراعان غير رسميين في الجمعية العامة ومجلس الأمن، أظهر كل منهما تقدم رئيس الوزراء البرتغالي السابق أنطونيو جوتيريس في كل منهما.
ويعني ذلك أن جهود الكتلة التي تشكلت من 45 دولة، أي ما يقرب من ربع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، للحث علي اختيار امرأة لمنصب الأمين العام هذه المرة، لم تحقق نجاحا حتي أوائل سبتمبر 2016، رغم أن نصف المرشحين من النساء، وتتصدرهن المديرة الحالية لمنظمة “اليونسكو” العالمية إيرينا بوكوفا، ووزيرة الخارجية الأرجنتينية سوزانا مالكورا. كما أن بوكوفا، بوصفها بلغارية، تنتمي إلي منطقة شرق أوروبا، التي تعد الوحيدة التي لم تمثل في منصب الأمين العام حتي الآن. وربما تكون أوزان المرشحين اختلفت خلال الأسابيع الثلاثة بين كتابة الافتتاحية، وصدور هذا العدد من “السياسة الدولية”.
غير أن الأثر الوحيد المهم لهذا التغير هو إضفاء بعض الشفافية علي عملية اختيار الأمين العام، ومنح من يرغبون في متابعتها فرصة لمعرفة الفروق بين المرشحين. غير أن سلطة مجلس الأمن في تحديد شخص الأمين العام لا تزال كما هي، حيث تتحكم الدول الخمس دائمة العضوية في عملية الاخيتار، وتسعي إلي الاتفاق علي مرشح لا يعترض عليه أي منها، وإرسال اسمه إلي الجمعية العامة للاقتراع عليه. وإذا لم تكن له شعبية كافية في الجمعية، تمارس الولايات المتحدة، وأي من الدول الأكثر حماسة له نفوذها لتمرير اختياره فيها. كما أن التعتيم علي المداولات، وعمليات الاقتراع التي تجري داخل المجلس ظل باقيا علي حاله. أما أهم ما اقترحه الإبراهيمي وروبنسون في تصورهما لتدعيم دور الأمين العام، فلا يزال بعيد المنال، وهو أن يتقلد المنصب لفترة واحدة تستمر سبع سنوات، حتي لا يكون سعيه إلي فترة ثانية ضاغطا عليه، ومقيدا لحركته.
هكذا يكون الإصلاح:
يأخذنا استمرار هيمنة مجلس الأمن علي عملية اختيار الأمين العام إلي المسألة الجوهرية في الإصلاح الذي كان واجبا في الأمم المتحدة، منذ فترة طويلة، وأدي تجاهله إلي جمودها ودخولها مرحلة الشيخوخة.
فلم يكن هناك سبيل إلي تحرير الأمم المتحدة من القيود إلا إلغاء حق النقض “الفيتو” الذي كبلها، وجعل العالم أسير مصالح خمس دول، تتحمل اثنتان منها (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ثم روسيا) المسئولية الأولي عن الحالة الشبحية التي آلت إليها المنظمة الدولية.
غير أن المشاريع التي قُدمت بشأن إصلاح مجلس الأمن، ولم ير أي منها النور، ركزت علي زيادة عدد الدول الأعضاء في المجلس. وأغفلت هذه المشاريع أن معضلة المجلس ليست في قلة عدد أعضائه، بل في امتلاك خمسة منهم حق النقض الذي أسئ استخدامه منذ البداية. ولذلك، لا ينطوي مشروع توسيع العضوية في المجلس علي أي إصلاح، فضلا عن أنه محكوم عليه بأن يبقي حبرا علي ورق بسبب الخلافات بشأن الدول التي ستضاف إلي الأعضاء الحاليين، خاصة في حالة حصول بعضها علي عضوية دائمة، سواء بامتلاك حق النقض أو بدونه.
فالإصلاح الحقيقي، الذي كان ممكنا أن يجعل صورة الأمم المتحدة الآن مختلفة كثيرا عما آلت إليه، هو إلغاء حق النقض، وليس زيادة عدد أعضاء مجلس الأمن. ولكن هذا النوع من الإصلاح لم يطرح جديا في أي وقت، لأن العالم افتقد دولا تملك شجاعة الخروج من عباءة التبعية، وتستطيع مواجهة الدول الخمس صاحبة “الفيتو”، عبر السعي إلي بناء تكتل واسع في الجمعية العامة ليتسني طرح قضية الإصلاح فيها تحت بند “الاتحاد من أجل السلام” لفرض إرادة دولية قوية، أدي غيابها إلي الوضع المؤلم الذي انتهت إليه المنظمة الدولية.
د.وحيد عبدالمجيد
مجلة السياسة الدولية