قبل وقت طويل من تحول الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في سورية إلى مذابح على يد النظام، وقبل تحرك مصر مُبتعدة عن حركتها الديمقراطية وعودتها إلى تنصيب حكم المجمع العسكري-الأمني في أعقاب انقلاب العام 2013، كان صدى هزة أرضية قد تردد في كامل أنحاء العالم العربي.
دفعت الانتفاضات المؤيدة للديمقراطية التي اجتاحت المنطقة إلى قيام النقاشات حول العلاقة بين المواطنين، والمجتمعات، والدول. كما أنها أوضحت أيضاً الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين المحكومين والحكام، والذي يعِدُ بتجاوز الأزمات المستمرة التي تعانيها التنمية، وبسيادة الحكم الرشيد، وسيادة القانون.
وراءً في العامين 2011 و2012، لم تكن الأسباب الجذرية لهذه الأزمات تخفى على أحد. كانت المعدلات العالية للفقر والبطالة مسؤولة عن تحول الاهتمام نحو حادثة انتحار محمد البوعزيزي الذي أشعل جذوة الغضب في شوارع تونس، ووضع نهاية حكم الرئيس زين العابدين بن علي.
وكانت هذه المشاعر نفسها هي التي عملت تدريجياً على حشد أجزاء من المواطنين الفقراء والشباب المصريين العاطلين عن العمل، ودفعتهم إلى المشاركة في ما أصبح يعرف باسم “ثورة 25 يناير”، والتصدي -بأنفسهم- لمحاولة تحقيق مطالبهم الاقتصادية والاجتماعية؛ الخبز والعدالة الاجتماعية.
كانت فجوة تفصل الفقراء، وذوي الدخل المحدود، والأغلبيات المهمشة عن النخبة السياسية والاقتصادية والمالية قد تكونت بسبب تفشي الفساد وغياب سيادة القانون. وفشلت خطط التنمية المتوازنة في جسر الفجوة بين الطرفين، فيما عاد في جزء كبير منه إلى استبعاد الجماهير من عملية صنع السياسات العامة، وغياب الحكم الرشيد، واستخدام تكتيكات الدولة القمعية ضد الشعب.
وفي السنوات القليلة التي سبقت العامين 2011 و2012، تصاعد معدل الاحتجاجات القائمة على المظالم الاقتصادية والاجتماعية في بلدان مثل مصر، وتونس، والمغرب واليمن. وبدأت المجموعات المهمشة والمضطهدة في المنطقة في إدراك العلاقة بين أوضاعها الاقتصادية السيئة وبين الفساد، وبين معاناتها وبين افتقارها إلى الفرص الاقتصادية، والقرارات السياسية التي تتخذها حكومات غير تمثيلية، وغير ديمقراطية.
وكان الانهيار في مستوى الرعاية الصحية والتعليم وغياب إجراءات الحكم الرشيد التي تسمح برقابة المواطنين على أداء الحكومة، وتفعيل المساءلة والمسؤولية بين المؤسسات الحكومية والسلطات العامة، من بين العوامل الرئيسية لقيام الانتفاضات.
كما تم الشعور أيضاً بالتداعيات السلبية التي تفرزها النظم الريعية ونظم الرعاية في العالم العربي، وهو ما جعل المواطنين يدركون الحاجة إلى تجاوز الاقتصادات القائمة على الريع –سواء كان ذلك ريع المصادر الطبيعية أو ريع التحالفات الإقليمية والدولية.
ولم يقتصر الأمر على تخلي مؤسسات الدولة عن ولايتها التنموية وتحديد مهمتها بتقاسم عوائد الموارد وممارسة المراقبة الشرطية على المواطنين والمجتمعات. كانت هناك أيضاً علاقة مباشرة بين الريعية (وأيديولوجيتها الأبوية، إذا كان ذلك يهم) وبين استمرار بقاء الحكومات غير الديمقراطية في العالم العربي.
كانت الجماهير المحتجة في العام 2011 والعام 2012 تدرك ذلك. ولم يكن بالوسع إنكار هوية المشاركين في الاحتجاجات باعتبارهم “الخاسرين” من النظم الريعية العربية -الفقراء والمساكين، الذين لا يملكون، وغير الممثلين. وقد كسب سعيهم إلى إبرام عقد اجتماعي جديد وعادل صوتاً عالياً بشكل ملحوظ في شوارع تونس والقاهرة وصنعاء وحماة.
في واقع الأمر، كانت هناك اختلافات كبيرة قائمة بين الدول العربية في الفترة التي سبقت الانتفاضات. ففي بلدان مثل العراق وسورية ومصر وليبيا، والجزائر، أفضى ارتكاب الجرائم المنظمة وانتهاكات حقوق الإنسان ضد الأغلبية الخاسرة إلى إنتاج جمهوريات الخوف والفساد.
وفقدت الحكومات شرعيتها السياسية، ولم تستطع المؤسسات العامة الاحتفاظ بالثقة الشعبية، وكانت عمليات اتخاذ القرار ورسم السياسات العامة تخضع على نحو متزايد لهيمنة المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية.
في دول الخليج الغنية بالنفط، استفادت الحكومات من عائدات النفط للتخفيف من حدة الفقر ومنح الأغلبية وصولاً إلى ظروف معيشية أكثر إنسانية. وفي المقابل، ابتكرت الحكومات الخليجية عقداً اجتماعياً ديمقراطياً معكوساً، يقوم على أساس مبدأ “لا ضرائب، لا تمثيل”، ولم تكن مضطرة للجوء إلى عنف الدولة الشديد للإبقاء على المجتمعات والمواطنين تحت السيطرة.
وفي بلدان أخرى، حيث خففت الهياكل القبلية والطائفية من شدة عنف الدولة، احتفظت المجتمعات ببعض الحماس المستمد من مشاركة القبائل والجهات الفاعلة الطائفية في عمليات صنع السياسات العامة.
كانت الحكومات والمؤسسات العسكرية، وكذلك أجهزة الأمن والاستخبارات –القوية هنا والضعيفة هناك- إما غير قادرة أو غير راغبة في ممارسة القمع الشامل. وبالمقارنة إقليمياً، عمل قيام دول الخليج بقلب المعادلة الديمقراطية والحماية القبلية الطائفية للمجتمع ضد تهديد الحكومات الاستبدادية، على تزويد المواطنين بظروف معيشية أفضل مقارنة مع مواطني جمهوريات الخوف.
لكن العجوزات في التنمية المستدامة والحكم ظلت قائمة، ولم تعان وصاية النخبة الحاكمة والقبائل والجهات الطائفية من الطعن والتفكيك. ومع ذلك، وخلافاً لما حدث في جمهوريات الخوف، لم تتحول الأغلبية في دول الخليج، وبعض الأنظمة الحميدة الأخرى، إلى خاسر أبدي.
وراءً في العامين 2011 و2012، كانت الأسباب الجذرية والمحركات للاحتجاجات واضحة. وعاد مفهوم “العقد الاجتماعي الجديد” ليرمز الى السعي الشعبي إلى تجاوز الاستبداد والريعية في العالم العربي.
كان النشطاء والمثقفون في كامل الفضاء الإقليمي العام يبحثون عن سبل لتمكين المواطنين وحماية المجتمعات وإخضاع مؤسسات الدولة لمبادئ الرقابة والمساءلة.
وفي تلك الفترة، كثرت التقارير عن عقد المناقشات الملهِمة حول الحريات المدنية والتحرر، وإطلاق المبادرات الفردية والخاصة، وتحديث الهياكل الاقتصادية لتأكيد قيم الإنتاج والابتكار والمنافسة المفتوحة، وتأسيس الأطر القانونية والسياسية لفرض الضوابط والتوازنات والرقابة على المسؤولين الحكوميين والعامين، في جميع البلدان العربية.
لأول مرة في العصر الحديث أيضاً، أصبحت النقاشات المثيرة للجدل حول كيفية إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات المدنية-العسكرية، وحول كيفية حماية الحريات الشخصية والتحرر في مواجهة الوصاية القبلية والطائفية، وحول كيفية تأسيس آليات العدالة الانتقالية القادمة للتصالح مع ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، أصبحت هذه النقاشات تسترعي الاهتمام الشعبي.
ومع ذلك، وفي أعقاب المنعطفات الدرامية للأحداث في معظم بلدان الربيع العربي، سرعان ما ذهب السعي إلى إبرام عقد اجتماعي جديد إلى الانزواء شبه الكامل.
وحدث ذلك إما بسبب إراقة الدماء التي استخدمها الحكام المستبدون، الذين لا يترددون في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في حق شعوبهم من أجل البقاء في السلطة، وبسبب الإرهاب والتطرف، والجماعات العنيفة التي لا تتورع عن القتل الجماعي والدمار (المأساة السورية )؛ أو بسبب تعثر الجهود للتغلب على الاستبداد والريعية وعودة المجمعات العسكرية-الأمنية الاستبدادية إلى سدة السلطة (المأساة المصرية)؛ أو بسبب مزيج من السببين معاً (كما هو الحال في اليمن وليبيا).
كما حدث ذلك أيضاً بسبب الدفاع الناجح عن الريعية، والقبلية، والطائفية من قبل أنصارها في الملكيات الحميدة في العالم العربي.
هل عدنا إذن إلى المربع الأول، بعد كل هذه التضحيات البشرية والمادية التي قدمها الشعب العربي منذ العام 2011؟
الجواب هو “لا” واضحة. لم تضع تماماً بعد ذاكرة الأزمات التنموية وأوجه القصور في الحكم. وما يزال الشعور بالتمكين الشعبي الذي غرسته الانتفاضات الديمقراطية في شرائح واسعة من السكان العرب مستمراً في الإشعاع الآن، في العام 2016.
عمرو حمزاوي
كارنيجي