استبعد الصراع الشرس حول سباق الرئاسة الأميركية إلى حد كبير الانتباه لحدث تدمير مدينة حلب السورية ولا سيما الأحياء الشرقية من المدينة والتي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة بشكل ضعيف، وقد تأكد ذلك من خلال النشرات الإخبارية المسائية في الولايات المتحدة. وقد جازف عدد قليل من المراسلين والمصورين الشجعان بالدخول إلى سوريا ولكن عادة ما تبقى الكاميرات على مسافة آمنة، ولذلك فإن الكثير مما نراه هو الومضات والدخان الناجم عن القذائف والقنابل التي تنفجر في مدنها. وفي أوقات أخرى نرى مقاطع الفيديو التي صُورت بالهاتف المحمول لأشخاص منهكين يفرون بحثا عن مآوي أو ينقلون جرحى يصرخون من شدة الألم إلى المستشفــيات، حيث لا توجد مساعدة تذكر لهم.
وهناك إجماع غربي على أن الروس يساعدون حلفاءهم السوريين وهم القوات الحكومية السورية في قصف المدينة وأنهم مع البعض من التحفظات الدبلوماسية ولا سيما من قبل الأمم المتحدة قامت طائراتهم بتدمير قافلة إغاثة الأسبوع الماضي. واستمع مجلس الأمن الدولي في مطلع الأسبوع الماضي إلى هجمات دبلوماسية من الدول الغربية ضد روسيا.
وقالت سمانثا باور، سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، إنه “بدلا من سعيهما إلى السلام، فإن روسيا وبشار الأسد يسهمان في صناعة الحرب عبر قصفهما للقوافل الإنسانية والمستشفيات ومقدمي الإسعافات الأولية، الذين يحاولون باستماتة إبقاء الناس على قيد الحياة”.
وقال ماثيو ريكروفت، سفير بريطانيا في الأمم المتحدة، إن روسيا والأسد “فتحا أبواب جحيم جديد على حلب، فروسيا تشارك النظام السوري في تنفيذ جرائم حرب”. وفي الوقت الذي دُعي فيه السفير السوري للتحدث قاد ريكروفت عملية انسحاب شاركت فيها باور والسفير الفرنسي فرنسوا ديلاتر. ونفى السفير الروسي فيتالي تشوركين بعد ذلك مشاركة روسيا.
أحلام سوفييتية
لماذا تضع روسيا نفسها في الجانب الخطأ من التاريخ لأن لا أحد يمكن أن يشك في أن التاريخ سيسجل الأسد كطاغية رهيب وروسيا حليفته الشريرة؟ وفي حقيقة الأمر روسيا لا تشك في ذلك، ولكنها تغطي أسبابها لهذا التحالف بإنكار لا يمثل سوى أصغر ورقة توت.
يسعى فلاديمير بوتين شيئا فشيئا إلى إعادة بناء المجد والقوة اللذين يرى أن الاتحاد السوفييتي كان يحظى بهما. وكان الاتحاد السوفييتي طرفا رئيسيا في الشرق الأوسط واليوم فإن الشيء الوحيد الموروث من تلك السنوات هو مرافق مستأجرة لرسو السفن في طرطوس على الساحل الشمالي لسوريا.
وبعد إخلاء القواعد السوفييتية في الإسكندرية ومرسى مطروح بمصر في أواخر السبعينات من القرن الماضي مازالت طرطوس تمثل موطئ القدم الوحيد لروسيا على البحر المتوسط. وعلى الرغم من تفاوت الآراء بشأن مدى أهمية طرطوس، إلا أنها تظل أصغر جدا من أن تستضيف سفنا روسية أكبر، حيث لا يزال الميناء يمثل نقطة إمداد مهمة.
والحسابات السياسية والاستراتيجية للكرملين أكثر أهمية، فبوتين يعتقد أن التدخلات الغربية في دول أخرى (والتي تُطرح عادة على أنها عمليات إنسانية) تُخفي أجندة عدوان واستعمار جديد. وفي كلمة حاسمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي انتقد الغرب لرفضه تبني موقف الأسد في الحرب الأهلية السورية وتطبيق نفس المنطق على التورط الغربي في أوكرانيا، حيث يزعم بوتين أن قوى خارجية نسقت انقلابا عسكريا “أثار نتيجة لذلك حربا أهلية”.
يؤكد التعمق في وجهة النظر الجيوسياسية الروسية في التعاطي مع الحروب في العالم، أن العقلية الكلاسيكية لا تزال محددا لهذه الرؤية، فروسيا وبالرغم من مرور أكثر من ربع قرن على سقوط الاتحاد السوفييتي إلا أن منطق تفكير قادتها بقي على ما هو عليه ولم يتغير بشكل حقيقي وميداني.
ويرى مراقبون أن الحذر الشديد الذي يسلكه بوتين في تعاطيه مع اقتراب حلف شمال الأطلسي من تخوم غرب روسيا، يجبره على اللعب بأوراق القوة الجوية الروسية في مناطق أخرى من العالم وفق معادلة أشبه ما يكون باقتسام ضمني للفضاء العالمي مع أفضلية للغرب. أي أن تزايد حلفاء الغرب من دول أوروبا الشرقية وضمها إلى الناتو، يقابله المزيد من الإصرار الروسي على إبقاء النفوذ في سوريا وأوكرانيا والقرم.
ينظر الرئيس الروسي إلى الولايات المتحدة على أنها خصم دائم وعنيد يمتلك قوة عسكرية لا بد من كبحها في أي فرصة. ولكن هناك أساس منطقي آخر للحفاظ على التحالف مع الأسد، وهو يكمن في تجربة الرئيس في منطقة الشيشان الروسية التي تتبع شمال شرق القوقاز. فسكان الشيشان الذين يزيد عددهم عن مليون نسمة كانوا من بين أكثر الشعوب المقهورة وأكثرها ولعا بالحرب في عهد القياصرة والاتحاد السوفييتي.
وأعلن إقليم الشيشان عن استقلاله أواخر العام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفييتي. وأثارت معارضة روسيا للانتفاضة الوطنية وهي حرب الشيشان الأولى (في ما بين عامي 1994 و1996) والتي أدت إلى جعلها دولة شبه مستقلة.
وعندما اندلعت الحرب من جديد أواخر 1999 كان بوتين رئيسا للوزراء وكان يتخذ معظم القرارات بدلا من الرئيس المريض آنذاك بوريس يلتسين. وحوّل الجيش الروسي الذي تم إعداده بشكل أفضل معظم العاصمة غروزني إلى أنقاض.
وبحلول العام 2000 أنهت موسكو معظم المقاومة المنظمة على الرغم من استمرار أنشطة المتمردين حتى العام 2007 عندما فرض رمضان قديروف وهو نجل الرئيس الشيشاني السابق يدعمه بوتين بقوة، نظاما دكتاتوريا فاسدا ووحشيا، وأُخمدت روسيا النزعة الانفصالية وأعيد بناء غروزني وظلت الشيشان موالية لموسكو.
التعمق في وجهة النظر الجيوسياسية الروسية، يؤكد أن العقلية الكلاسيكية لا تزال محددا لهذه الرؤية
تجربة الشيشان
الشيشان هي النموذج للحرب الدائرة في سوريا الآن وغروزني هي النموذج للهجوم على مدينة حلب. وبالنسبة إلى الرئيس الروسي فإن كل الكلام عن الهدنة أو المفاوضات رياء إلى حد كبير يتم طرحه فقط كغطاء دبلوماسي دون أن تكون له قيمة حقيقية.
وبالنسبة إليه مثلما أوضح في كلمته أمام الأمم المتحدة في العام 2015، فإن هذه حرب خاضها إرهابيون ضد حكومة شرعية. وبمجرد بدء مثل هذه الحرب كان السبيل الوحيد أمام الحكومة هو استخدام القوة الصارمة ضد أعدائها.
وجعلت الحرب الثانية في الشيشان بوتين الذي لم يكن معروفا نسبيا، بطلا بعد أن عزز رده الصارم على هجمات الانفصاليين من شعبيته. وقد كان استهلال الزعيم الروسي لسياسة أدت فيها الحرب والقوة إلى شعبية في الداخل، وهو طريق تم انتهاجه بشكل جيد في أوكرانيا والقرم والآن في سوريا.
وقد تكون لبوتين نوايا واضحة في أن يحافظ على وجوده كلاعب دولي استراتيجي في كل الحروب والعمليات الانتقالية في العديد من الدول، وهذا من حق كل دولة قوية أن تدافع على مصالحها في منطقة ما من العالم. ولكن أن تكون لسياسة بوتين آثار سلبية كبرى على توازن القوة في البعض من المناطق وخاصة الشرق الأوسط، فذلك لا يدخل ضمن المصالح والدفاع عنها وإنما يدخل ضمن حسابات ضارة قد تعود بأثر سلبي على بوتين وروسيا في المستقبل.
وانكشف أمر روسيا بوضوح عندما اختارت منهج الإبقاء على حليف اسمه إيران في المنطقة، بطريقة جعلت من الحضور الروسي في الشرق مسألة غير مرحب بها، وتزيد من تعقيد مهمة الخروج بسوريا من الوضع الكارثي التي تعيشه نظرا إلى عدم وجود رضاء تام على الأسد وكيفية تعاطيه مع الأمن الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، والذي يريد البعض ترويجه على أن الروس يريدون الحفاظ على خط “ممانع” في الشرق الأوسط كي تبقى البعض من الجيوب الأيديولوجية تنتمي إلى المجال السوفييتي التاريخي، وهذا ما يجب فعلا أن يتغير في سياق تغيير نمط التفكير خاصة في ظل تزايد أهمية منطقة الشرق الأوسط ودورها في ضبط ميزان العلاقات الدولية في الفترة الحالية.
وسياسة الاستحواذ التي تستعملها روسيا تصطدم في أحيان كثيرة مع مصالح قوى أخرى في الشرق الأوسط قد تكون لها أيضا مصلحة في التغيير السوري، لكن لأهداف تخصها. وهنا يمكن الحديث عن تركيا التي وصل بها الأمر إلى حد إسقاط طائرة روسية وقتل طياريها بتعلة اختراقها لمجالها الجوي.
وليست المسألة السورية فقط محل الخلاف الجذري بين أردوغان “العثماني” وبوتين “السوفييتي”، بل إن شرق أوروبا أيضا يعد نقطة استراتيجية خلافية كبرى بين البلدين نظرا إلى تاريخ العثمانيين وانتشارهم في تلك المناطق والذي تراجع مع تمدد السوفييت منذ اندلاع ثورة البلاشفة عام 1917.
صحيفة العرب اللندنية