لم تكشف المناظرة الرئاسية الأولى في الولايات المتحدة عن أي شيء جديد عندما يتعلق الأمر بهوية أي من المرشحَين. وقد أكدت بدلاً من ذلك على أن دونالد ترامب هو مجرد شخص مصاب بجنون العظمة، والذي يجب إبعاده عن المنصب السياسي كما يتم إبعاد طفل بعمر الثالثة عن علبة ثقاب. وبوصفه صبي ملصقات تعبر عن الرأسمالية الفالتة من عقالها، فإنه رجل منفصل تماماً عن الواقع -ومعه إنسانيته نفسها- بحيث تأتي كل كلمة تغادر فمه لتكون بمثابة صرخة استنجاد.
وفي الوقت نفسه، فإن هيلاري كلينتون هي قاتلة بالفطرة، وتابعة مخلصة للاستثنائية الأميركية، والتي تعتقد بأنه ليس هناك أي بلد لا يمكن تحسينه بواسطة إمطاره بوابل من صواريخ كروز وتوماهوك. وهي تشكل مع زوجها تجسيداً للانتهازية الليبرالية، وقد شقا طريقهما من خلال التحدث بلغة اليسار والعمل بعمل اليمين. وكانت ثمار هذه الانتهازية هي التقييد الشامل، وتكريس وول ستريت باعتباره المعبد الذهبي للاقتصاد الأميركي، وتأبيد الحرب التي لا تنتهي وعمليات تغيير الأنظمة وراء البحار. وعندما وصف فرخان هيلاري بأنها “امرأة شريرة”، فإنه ما كان ليكون أكثر صواباً. بل إن كريستوفر هيتشنز عبر عن ذلك بطريقة أكثر بلاغة عندما قال: “لم تقابل هي وزوجها أي مانح سياسي أجنبي لا يحبانه ولم يكونا قد أخذا منه شيئاً”.
هكذا هي النوعية الخطيرة لكلا المرشحَين الساعيَين إلى شغل منصب كان، حتى في أيامه الأفضل، مرادفاً لارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومن المغوي أن نخلص إلى حقيقة أننا منذورون للبؤس. أقول ذلك من موقع شخص غير أميركي بالنظر إلى أن شاغل البيت الأبيض يتمتع بأهمية بالغة بالنسبة لعالم أصبح الآن بالغ الضجر من تجربة واشنطن الهائلة والمستمرة في الديمقراطية، إلى جانب المرض الأخلاقي الذي يغذي قوتها غير المقيدة وعقيدة “تدمير القرية من أجل إنقاذها” التي لطالما استندت إليها سياستها الخارجية منذ وقت طويل.
وهو ما يطرح السؤال: مَن سينقذنا من أميركا؟
أكتبُ هذه الكلمات بينما أقوم بزيارة لهوليوود، وهي جزء من العالم الذي أعرفه جيداً وقد كنتُ أعيش هنا في السابق، ويضربني محيط من الإنسانية المحطومة التي تملأ شوارعها المذهَّبة المغلفة بالأسطورية. ولا يحتاج أي شخص يعتقد بأن أميركا مجتمع غير طبقي سوى أن يأتي إلى هنا ليدرك كم هو على خطأ. وفي الحقيقة، سوف يتأكد القادم إلى هنا بعد يوم واحد فقط أنه لم يعد هناك الآن مجتمع معرَّف بالطبقات أكثر من المجتمع الأميركي، وسيدرك أيضاً أن كل دقيقة من كل يوم هي بمثابة حرب طبقية ضارية تستعر في كل بلداتها ومدنها، وحيث ثمة جانب واحد من هذه الحرب حتى الآن، الـ99 في المائة، هو الذي يتلقى كل الضربات وينفرد بتحمل كل النزيف.
عبر كامل الوطن الأميركي، كان التخلي عن الفقراء والمسحوقين والمرضى وتركهم لمصائرهم من أجل خدمة الأغنياء بالغ الوحشية والقسوة، حتى أن تداعياته الإنسانية أعطت معنى جديداً لمقولات فانون في “المعذبون في الأرض”. ولا شك أن فقراء أميركا أناس مُستعمَرون، وهو السبب الذي يجعل تأكيد مالكولم المعروف: “إنك لا تستطيع أن تفهم ما الذي يجري في المسيسيبي إذا لم تكن تفهم ما يجري في الكونغو”، واحداً من أكثر أقواله إقناعاً وصدقية.
مع ذلك، وبقدر ما أكره أميركا بسبب حجم الظلم والوحشية والكذب الذي يميّز معاملتها للفقراء في الوطن والخارج، فإن الأمل يأتي في التواجد الهائل والمستمر للثوار والمعارضين والحركات المناهضة للهيمنة، التي أنتجتها البلاد في إطار الاستجابة. فالاضطهاد ينجب المقاومة. وخلال كامل تاريخ الولايات المتحدة، كانت هناك مقاومة عنيدة على الرغم من كل التناقضات وفي وجه كل الصعوبات -سيتينغ بَل؛ نات تيرنر؛ دينمارك فيسي؛ سان باتريكيوس؛ فريدريك دوغلاس؛ جون براون؛ الأم جونز؛ بيغ بيل هوليوود؛ وووبليز؛ إيوجين ديبس؛ وكتيبة إبراهام لينكولن؛ م. ل. كيه؛ ومالكولم إكس؛ والفهود؛ وحركات مناهضة حرب فيتنام؛ سيزر شافيز؛ وغيرهم.
كل واحد من هؤلاء الساخطين، إلى جانب الحركات التي قادوها أو كانوا جزءا منها، كانوا محقونين بنفس الغضب الأخلاقي الشرس من الظلم الذي اختبروه أو شاهدوه يحدث باسم التقدم وتطبيق مبدأ “القوة هي الحق”. ويختبر الكثير من الناس بأحد المستويات ويشيرون إلى هذا الشعور الحارق من الغضب الأخلاقي من الظلم الذي يميز العالم الذي يعيشون فيه. ويبرز الفرق بين أولئك الذين يتعملون التصالح مع هذا الواقع وبين أولئك الذين يرفضون التصالح معه -والذين يختارون بدلاً من ذلك التصارع مع هذا الوحش وهم يعرفون قبل أن يبدأوا أنه هذا الصراع سيكون معركة خاسرة.
هذه هي الحالة الإنسانية في دورتها الأكثر إلهاماً: إرادة القتال حتى بينما تعرف أنك لا تستطيع أن تكسب. ولكن، لن يكون لهذا التأويل الاختزالي ذي البعد الواحد مكان عندما نفهم التاريخ على أنه يتدفق بلا نهاية، وليس وكأن هناك شيئاً يفصله إلى فصول مرتبة وواضحة كما في كتاب. إن القتال فوز، والفوز نضال سيستمر طالما استمر الظلم.
إن السباق على البيت الأبيض هو سباق من أجل السلطة التي يتصارع عليها أولئك الذين وصفهم تشابلن بقولته الشهيرة بأنهم “رجال (ونساء) آلات، بعقول آلات وقلوب آلات”. إنه منافسة بين اثنين من ممثلي طبقة حاكمة سيكوباتية، من أجل الحصول على مفتاح مملكة اليأس. ولكن، وخشية أن يسمحوا لأنفسهم بأن تصبح مغرمة بالذات وهم يسيرون متعثرين إلى حياة الامتياز ثم الانحدار، فإنهم يجب أن يستعيدوا كلمات كريزي هورس، التي قالها قبل أيام من وفاته وهو يقاوم قسوة السجن: “سوف تنهض الأمة الحمراء مرة أخرى، وسوف تكون نعمة مباركة لعالَم مريض؛ عالم مليء بالوعود المكسورة، والأنانية والحواجز؛ عالم يصبو إلى الضوء”.
جون وايت
صحيفة الغد