كان موضوع الجلسة في الندوة عن الشرق الأوسط بالقرب من العاصمة الأميركية واشنطن، عن السجل أو الميراث الذي سيتركه باراك أوباما عن سياسته في الشرق الأوسط. وقد بدأت مداخلتي بالاستعارة من أدب نجيب محفوظ عندما قال في «أولاد حارتنا» إن «آفة حارتنا النسيان». لم يكن صاحب نوبل يتحدث عن الحارة بقدر ما كان يتحدث عن الدنيا منذ الخليقة وحتى الوقت المعاصر. وفي الندوة لم يكن الحديث أيضا عن حارة، وإنما عن إقليم أعيته أحداث دامية وعنيفة ودرامية وتراجيدية. ولم يكن ممكنا نسيان ليس فقط تراث أوباما، وإنما أيضا تراث سابقه في الإدارة: جورج بوش الابن. فالشائع في واشنطن أن الإدارتين مختلفتان، حيث اتصفت الإدارة الجمهورية بالتورط والتدخل واستخدام القوة العسكرية؛ بينما اتسمت الإدارة الديمقراطية بالتحفظ والانسحاب والاستخدام المحدود للقوة العسكرية. ولكن أيا كان الأسلوب فقد كان الهدف واحدا، وهو تغيير الشرق الأوسط بالطريقة نفسها التي جرت من قبل في الكتلة السوفياتية.
المثل كان معروفا في الإدارة الجمهورية عندما لخصته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في خطاب أمام الجامعة الأميركية في القاهرة في تعبير «الفوضى الخلاقة»؛ الذي لم يكن كما شاع في الشرق الأوسط يعني تحويل الإقليم من النظام إلى الفوضى، وإنما تحويله إلى نظم ذات سمات ليبرالية، أهم ما فيها اقتصاد السوق؛ تماما كما جرى في دول الاتحاد السوفياتي السابق. باراك أوباما من جانبه لم يتحدث في خطاب الوداع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) الماضي عن «الفوضى»، وإنما طرح الأمر كما لو كان بمثابة «حوار» أو «مونولوج» على الأرجح بين منظومتين من الفكر والمعرفة: الليبرالية والسلطوية. وفي نهاية الخطاب، فإن الليبرالي كانت له اليد العليا؛ ورغم أن الفوضى لم تذكر، فإن الألم كان موجودا دون رحمة.
ما كان مفقودا في كلتا الإدارتين أن المجتمعات التي تتحرك على هذا النحو من الخيارات بين منظومات فكرية بين الليبرالية والسلطوية. فلم يقدنا لا التاريخ ولا المنطق أنه يمكن اختزال المجتمعات إلى هذه الدرجة. فالأرجح دائما أن هناك مئات العناصر والمتغيرات التي تتفاعل مع بعضها بعضا لكي تنقل المجتمع من حالة إلى أخرى. بريطانيا في بدايات القرن السادس عشر إبان حكم هنري الثامن لم تكن المسألة فيها الصراع بين الكنيسة الكاثوليكية والإصلاح البروتستانتي، وإنما كان فيها التطور التكنولوجي والصناعي، والقيم والأفكار والمؤسسات، والكنيسة البعيدة في روما والأخرى القريبة في لندن، وكان فيها الملك وزوجاته وصاحباته كذلك. تغيرت بريطانيا في النهاية، ولكن عبر مراحل ومحطات لم يتم فيها إعطاء الكاثوليك حق التصويت إلا مع بداية القرن التاسع عشر، أما المرأة فكان عليها الانتظار حتى القرن العشرين.
السؤال بالنسبة للإدارتين هو عما إذا كان على الدولة الأميركية أن تتدخل أم لا، وهل يشمل التدخل إذا حدث القوة العسكرية وإلى أي مدى ودرجة؟ بوش قام بغزو أفغانستان والعراق، وكان الثمن كما ظهر مؤخرا في أحد التقارير خمسة تريليونات من الدولارات. وفي الحربين مات مئات الألوف، وأكثر من ذلك كان جرحى، وجرى تدمير أشكال أخرى من الحياة، وتحولت دول لم تكن ناجحة، ولكنها كانت قائمة إلى دول فاشلة ومنهارة. أوباما أخذ الاختيار المضاد، وهو أن يفك الارتباط ويتراجع عن التدخل. فبالنسبة له ولآخرين ممن عارضوا الحرب في العراق ادعوا أنهم كانوا على صواب. البعض الآخر ممن أخذوا موقف المعارضة والموافقة مثل دونالد ترامب المرشح الجمهوري الحالي، حاولوا التلاعب بمواقفهم حسب متطلبات الموقف السياسي. ولكن، وعلى أي حال، فإن جوهر الثنائية بين التدخل أو عدمه خاطئة، وبين الاشتباك والانسحاب غير موجودة. فالحقيقة، أن تراث بوش وأوباما يشهد أن كليهما تدخل واشتبك واستخدم القوة العسكرية سعيا وراء منظومة فكرية لهندسة السياسة والدول حسب ما ترى الولايات المتحدة، وسواء كان اعتمادا على وعد الفوضى الخلاقة أو الفوضى التي أصبحت في النهاية مدمرة. أصبح الفارق بين المحافظين الجدد، والليبراليين التقدميين، ضئيلا للغاية.
صحيح أن لدول الشرق الأوسط ومجتمعاتها كثيرا من الذنوب الأصلية وغير الأصلية؛ ولا يمكن في كل الظروف إعفاء الدول والمجتمعات والنخب من المسؤولية عما صار عليه مصير المنطقة. ولكن ذلك لا ينبغي له أن يعفي الدول الخارجية، خصوصا الولايات المتحدة، من المسؤولية، ليس فقط فيما يخص تدمير الشرق الأوسط، وإنما أيضا الأضرار التي حلّت بمصالح دولهم. فكما انتهى بوش بتكلفة عالية وصلت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي عام 2008، فإن أوباما انتهى بعجز كبير في المال والسمعة؛ أما العالم فقد انتهى بشرق أوسط منكسر ومكسور. فجوهر تراث أوباما وبوش هو ما تخيلوه عن إمكانية «الهندسة السياسية» للدول والمجتمعات؛ وهو مفهوم، لسوء الحظ، كامن في الفكر الليبرالي الذي يتصور قدرة الإنسان على التحكم في العالم بقدرة الأفكار، أو السلاح، أو كليهما.
من منظور الشرق الأوسط، فإن هناك خطأ جوهريا كامنا في المفهوم ذاته؛ لأن نظرية «الأسباب الجذرية» التي ترى أن أمراض الشرق الأوسط تأتي من الاستبداد، مع استبعاد الأصول والتعقيدات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية كثيرا ما جعلت التفكير، والحركة السياسية، تسير في اتجاهات خطية بسيطة وغير منتجة. ومن عجب، أن كلا من بوش وأوباما تجاهلا الدرس الكبير الذي قدمه الرئيس الأميركي إبراهام لينكولن في ستينات القرن التاسع عشر عندما رأى أن قيمة استمرار «الاتحاد»، أي الدولة الأميركية، يجب ألا تعلوها قيمة أخرى بما فيها الدستور والعبودية.
لقد انتهى النظام القديم في الشرق الأوسط، وما يجري من صراع الآن ليس حول استعادة النظام القديم وما فيه من أشباح صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح أو حسني مبارك، أو حتى بشار الأسد مهما تمسك بالسلطة، وإنما البحث عن نظام جديد ومختلف. وعندما يحدث ذلك فإنها لن تكون المرة الأولى التي يحدث فيها هذا التحول فقد حدث عام 1916 مع اتفاقية سايكس بيكو التي لم تكن حول الحدود، بقدر ما كانت تدمير الإمبراطورية العثمانية. وعندما جاء «الضباط الأحرار» إلى أكثر من بلد عربي قام نظام آخر في خمسينات القرن الماضي، تغير الشرق الأوسط مرة أخرى بما كان فيه من صراع وسلام عربي إسرائيلي، وحرب باردة أو ساخنة عربية، بما عكس في نظام قائم على الدولة الوطنية التي تفاعلت وتوازنت من خلال الصراع والمنافسة والتعاون والتحالف كأساليب للحركة السياسية والدبلوماسية. الآن هناك لحظة أخرى لبناء نظام آخر فجره لا يزال بعيدا، ولم يكن «الربيع العربي» إيذانا بمولده، ولكنه عندما يولد سيكون أساسه من المنطقة ذاتها، أما بوش وأوباما فسيذهبان ويأتي من يليهما وسيكون عليهم البحث عن طريقة أخرى للتعامل مع الشرق الأوسط غير ما جرى عليه الحال خلال العقدين الماضيين.
عبدالمنعم سعيد
الشرق الاوسط