كل هذه التصريحات موجودة مسموعة ومرئية مقروءة، وهي لوزراء خارجية الدول الكبرى في عالم اليوم، وموضوعها واحد، هو حرب الإبادة التي يشنها النظام السوري، بدعم من النظام الروسي ضد مدينة حلب، وما تبقى فيها من سكّانها العزل الأبرياء. فمنذ أسابيع، والمدينة تتعرض لأعنف غارات جوية وقصف مدفعي لم يستثن حتى المستشفيات، وذهب ضحيته مئات من أهالي المدينة، وذلك كله وسط حصار يفرضه النظام السوري على الأحياء التي ما زال فيها بعض من سكانها لتجويعهم، وإجبارهم على الاستسلام المهين.
هذه ليست سوى البداية، وما هو قادم أعظم. ففي ظل الصمت الغربي والعجز العربي، يجب توقع أن تزداد حدة التقتيل، خصوصاً في هذه الفترة الفاصلة قبيل انتخاب رئيسة أو رئيس أميركي جديد، فقد أطلق النظام السوري وحلفاؤه أيديهم لتدمير حلب على رؤوس آخر من تبقوا فيها من مدنيين عزل.
تجري كل هذه المآسي، في ظل تجاهل غريب من الغرب، للحصار المروّع الذي تعيشه حلب منذ سنوات، وتحت حمم النيران وبراميل البارود التي تتساقط فوق رؤوس أطفالها ونسائها. وفي ظل صمتٍ عربيٍّ مريب عمّا يحدث من جرائم وتقتيل ودمار في حلب. لا مظاهرات في شوارع المدن العربية للتضامن مع الضحايا، بل حتى بيانات الشجب والتنديد شحّت واختفت.. ولو كان للشارع العربي لسان لصرّح، هو الآخر، بأنه تعب، ويعاني من الكآبة ومن تبلد المشاعر والأحاسيس.
نجد، في الجانب الآخر من الصورة، أن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، يعد راعيه وحاميه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتحقيق “النصر النهائي” في حلب. نعم، رئيس نظام عربي يبشر رئيس دولةٍ يقصف طيرانها أطفال (ونساء) بلده، بالنصر على شعبه (!)، حتى كلمة “هزلت” لا تنفع هنا.
ما يجري في حلب هي بوادر حرب عالمية مقبلة، فبوتين يريد تحويل معركة حلبٍ إلى “ستالينغراد” في حربه غير المباشرة ضد الغرب، من أجل إعادة الاعتبار لهيبة روسيا زمن الاتحاد السوفييتي، البائد، بعد ما تعرّضت له من إهانةٍ من دول الغرب.
يسعى بوتين من حربه في سورية إلى كسر الحصار الذي فرضه عليه الغرب، بعد ضمه شبه جزيرة القرم، وإشعال فتيل حرب أهليةٍ داخل أوكرانيا، بهدف الضغط على الحكومات الغربية للتفاوض معه، حسب شروطه.
ربما نحن نسير اليوم في اتجاه اندلاع حرب عالميةٍ ثالثةٍ ستكون مدمرة، فهناك مؤشراتٌ كثيرة
تحيل على مجموعة من الإرهاصات المشابهة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى اندلاعها. فوضع روسيا بوتين اليوم يشبه، إلى حد كبير، وضع ألمانيا الهتلرية نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، فقد كانت ألمانيا، آنذاك، تشعر بالإهانة جرّاء المعاهدات المجحفة التي فرضها عليها الحلفاء، عقب انهزامها في الحرب العالمية الثانية. واليوم تشعر روسيا بالإهانة نفسها جرّاء العقوبات الاقتصادية التي فرضها عليها الغرب، بعد ضمها شبه جزيرة القرم. وشهدت تلك الفترة، أيضاً، تقارب أنظمة فاشية في ألمانيا وإيطاليا واليابان وتحالفها. هناك، اليوم، حلف فاشي جديد، يجمع بين روسيا وسورية وإيران. تشابه آخر مع تلك المرحلة لا يقل أهمية هو تدخل هتلر وحليفه الإيطالي الفاشي، موسوليني، في الحرب الأهلية في إسبانيا، لمحاربة اليساريين المدعومين آنذاك من دول غربية، كانت ترسل إليهم السلاح والعتاد، بل وحتى المقاتلين المتطوعين، وكان النصر في تلك الحرب التي دمرت مدناً إسبانية، وقتلت (وشرّدت) الآلاف من أهلها لنظام فرانكو الفاشي الذي حكم إسبانيا عدة عقود بالحديد والنار.
مقارنة أخرى لا تقل أهميةً بين تلك الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، وما يعيشه العالم اليوم على خلفية الأزمة السورية، هو عجز “عصبة الأمم” آنذاك عن وضع حد لطموحات سياسة التسلح والتوسع والتحالفات التي نهجتها الأنظمة الفاشية الصاعدة آنذاك، ووضع العجز نفسه توجد عليه اليوم منظمة الأمم المتحدة التي شلت حركتها، وتحولت إلى غرفة للتسجيل.
كانت حرب ستالينغراد بداية تدمير قوة هتلر، وأنهت الحرب العالمية الثانية، لكنها قسّمت العالم إلى فسطاطين، شيوعي وليبرالي، وأشعلت حرباً أخرى لا تقل تدميراً هي الحرب الباردة التي استمرت عقوداً. وهذا ما يسعى إليه النظامان، الروسي والسوري، كسر شوكة الغرب وإعادة تقسيم المنطقة، حتى لو أدى ذلك إلى إشعال فتيل حرب عالميةٍ ثالثةٍ، أو الزج بالعالم مرة أخرى في أتون حرب باردة جديدة.
المؤسف في كل هذه “الحسابات” أن من يدفع ثمنها هم أطفال ونساء أبرياء، يقتلون في كل لحظةٍ بدم بارد، ونحن نتابع أخبار إبادتهم كل مساء على شاشاتنا الصغيرة بأعصابٍ هادئة. بلا إحباط ولا شعور بخيبة الأمل ولا غضب.. وإنما بكثير من القدرة على ضبط النفس.