«جاستا» بين المتربصين والمزايدين

«جاستا» بين المتربصين والمزايدين

05-10-16-126981956

واحدة من أكثر الأزمات التي يعاني منها مشهدنا العربي والمحلي، تحويل كل قضية تمسّ سيادة الدولة أو تخص علاقتها الاستراتيجية بالخارج، عن مسارها واستغلالها؛ كلٌ لصالح أجندته الخاصة وآيديولوجيته السياسية التي يصدر عنها، وهنا بدأنا نلاحظ تكرار اللغة والأدوات التحشيدية نفسها وتثوير القضية ذات الأبعاد القانونية لإعطائها معنى نضاليًا، فنرى من لا يحلل مسألة «جاستا» ضمن سياقها الأميركي الخاص جدًا الذي بدأ بتحويل «11 سبتمبر» إلى كارثة كونية، ثم الاستفادة منها داخليًا لتحشيد الناخبين باتجاه معين، والاستفادة منها على مدى عقد ونصف سياسيًا عبر خرائب حملة الحرب على الإرهاب التي مسّت أفغانستان والعراق ودولاً كثيرة، لتعود الكرة الآن إلى محاولة الاستفادة من «حدث الأحداث»، كما وصفه جاك دريدا ذات مرة اقتصاديًا، بوصفه ورقة ضغط سياسية، وهو أمر لا يعني تبدلاً في التحالف أو المواقف، بقدر أنه جزء من ضريبة السياسة المتحولة أو النفعية.. حدث ذلك مع عراق صدام وليبيا القذافي، لكن الأمر مختلف جدًا مع السعودية، لأنها ليست دولة زعماء منبتين الصلة عن شعوبهم، أو أحزاب سياسية بديمقراطية شكلانية كما هي الحال في أغلب الدول العربية ما بعد زمن الاستعمار، لذلك من الخطأ الجسيم ما يفعله خصوم أميركا من اليسار والقوميين وأنصار الإسلام السياسي لاستغلال نزاع «جاستا»، وتحويله إلى لحظة تثوير وحشد جماهيري كما حدث سابقًا في حرب الخليج، وكانت صلابة الإرادة السياسية وحزم الملك فهد آنذاك كفيلين بتجاوز الأزمة.
ملف «جاستا» ليس حديثًا أو مقطوع الصلة عن السياق الطويل للعلاقة السعودية – الأميركية. تم إقحام المملكة منذ «11 سبتمبر»، ولم تفلح جهة قانونية في إيجاد دليل ذي بال، ومنذ ما يزيد على عامين وقانون «جاستا» يحضّر في الكونغرس، لكنه لم يقابل للأسف بحملات إعلامية مضادّة، وكان يمكن للسعودية إعداد سجلها الكبير في مكافحة الإرهاب؛ بدءًا من تفردها بتمويل كرسيه في الأمم المتحدة، وصولاً إلى أنها أكثر الدول التي استهدفها الإرهاب بكل أشكاله وما زال، هذا إضافة إلى نجاحها في تحذير الأوروبيين والأميركان بفضل قوة قواعدها المعلوماتية حول خلايا الإرهاب وامتداداته.
المزايدون على العلاقة السعودية – الأميركية لا يملكون أي بدائل أو أطروحات تقدير موقف حقيقية؛ لا على مستوى السياسة (استبدال حلفاء آخرين بالولايات المتحدة)، ولا الاقتصاد (فك الارتباط بالدولار مثلاً)، وفي الوقت نفسه يشكلون بتحشيدهم الجماهيري على الإنترنت، وقود أزمة، وهو ما قد يعكس نتائج سلبية؛ أبسطها إصرار شركات المحاماة الأميركية، وهي تتابع ردود الفعل بدقة، على المضي قدمًا في تعميم «جاستا» باعتباره وسيلة ناجعة لتكوين موقف كبير دون مستندات تشفع له.
أزمة السعودية بين متربصين باستقرارها وحضورها الفاعل اليوم في أغلب الملفات السياسية في المنطقة، وبين مزايدين عليها منذ لحظة انكشاف الربيع العربي، وسقوط أقنعة الشرق الأوسط الجديد.
أين الخلل إذن؟ في اعتقادي أن أكبر إشكالية للسعودية والسعوديين في عالم متناهي الصغر بفعل الميديا، هي «الصورة النمطية»، لو لم نستثمر في تصحيح هذه الصورة النمطية عبر منتجات إعلامية، وفتح المجال للباحثين والمؤتمرات للتعرف بشكل أكبر على السعودية الجديدة كليًا، لا تلك التي يحاول كثير من الغربيين فهمها عبر كتب الرحالة أو الكتابات الوسيطة، التي تعاني من مشكلات كثيرة، كالتحيّز، وسوء فهم الاختلافات الجذرية ثقافيًا واجتماعيًا، والتحولات المتسارعة أيضًا في مجتمع متحول.
قام معهد «واشنطن للديمقراطية» – وله تأثير كبير – بعقد منتدى سياسي ضم كلاً من ميغان أوسوليفان وفيليب غوردن ودينيس روس وجيمس جيفر، وهم مسؤولون ومستشارون سابقون رفيعو المستوى في الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وبجولة مشتركة حول السعودية وتركيا وإسرائيل، وعلى مدى ساعتين تحدثوا عن انطباعات جديدة تمامًا عن السعودية (يمكن مشاهدة الفيديو على موقع المعهد) وكان أبرز ما تحدثوا عنه هو اختلاف الصورة النمطية للسعودية لدى فئتين من الباحثين الغربيين والمراقبين؛ الأولى فئة لم تزر السعودية منذ فترة طويلة، وأغلبهم يميلون إلى التركيز على ملفات محددة وتقليدية عن التحديات الديموغرافية والاقتصادية والسياسية، لكن الذين زاروا المملكة في الفترة القريبة الماضية، وأقتبس من ملخص المنتدى حرفيًا، «غادروها مندهشين بالحيويّة والشعور بالمسؤولية، وأهمية الهدف والإمكانات التي تعكسها تلك البلاد، ومتفاجئين بها، وهو تغيّر لم يُلاحظ سوى في السنوات القليلة الماضية».
هذه المرحلة، بحسب هؤلاء الباحثين الأميركان، مهمة للسعودية اقتصاديًا بشكل غير مسبوق، بسبب التغيّرات الهيكلية الحاصلة في أسواق النفط، وهو ما عبر عنه مسؤول أميركي: «ثورة في البلاد تتزيّا برداء الإصلاح الاقتصادي»، وهي اعترافات، بحسب مدير الندوة، مشجعة للغاية، على الرغم من استمرار الجدل الداخلي حول سرعة هذه التغييرات وإمكانيّة تعديلها للنسيج الاجتماعي.
الباحثون أكدوا أن التحولات طالت كل بِنى المجتمع السعودي، بما في ذلك الخطاب الديني، حيث تبدو السعودية اليوم مشروع دولة وطنية وليست آيديولوجية، في إشارة إلى إيران.
وبحسب فيليب غوردن الذي زار السعودية أيضًا في فترة قريبة سابقة، فإن الشعور بالمسؤولية بدا واضحًا له من قبل كل الشخصيات التي التقى بها. وبحسب قوله، فالسعودية «لديها الآن مجموعة شابة وحيويّة من موظفين كانوا قد عملوا في القطاع الخاص، ويملكون رؤية وتصميمًا صادقًا لتحويل البلاد».
عودًا إلى «جاستا»، فنحن من يملك تفاصيل تقزيم هذا الملف، عبر تأطيره في سياقه الخاص، وعدم تحويله إلى ملف أزمة مع الحليف الأهم للسعودية اليوم كما بالأمس، كما أن إيصال صوت السعودية إلى العالم ورؤيتها للمنطقة، يجب أن يكون مهمة وطنية كبرى تتضافر فيها جهود كل القطاعات؛ بما فيها الخاص.
الأزمة الحقيقية في مشهدنا المحلي تكمن في استغلال المتربصين والمزايدين لكل قضية، للدفع بآيديولوجيتهم السياسية، ضمن تصورات مغلوطة وبدائية لمثلث الدولة؛ الحكومة، والنظام السياسي، وعلاقته بالمجتمع. هذه المجموعات التي تشهد حضورًا جماهيريًا بفضل خطابها الثوري طورت نفسها على مستوى الانتشار، لكنها لا تنطلق من نظرية ورؤية متماسكة صالحة حتى لأن تكون معارضة سياسية بالمعنى الحديث.

يوسف الديني

صحيفة الشرق الاوسط