ولم تنتظر الرئاسة الروسية كثيراً لترد على باريس وتعلن، صباح أمس الثلاثاء، أنبوتين قرر إلغاء زيارته. وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين إنه “منذ بداية مشاوراته مع نظيره الفرنسي، أشار الرئيس بوتين إلى أنه مستعد لزيارة باريس حين يكون ذلك مناسباً للرئيس هولاند. لذا سننتظر حتى يحين ذلك الوقت المناسب”. فيما نقلت وكالة “رويترز” عن مصدر في مكتب هولاند أن بوتين قرر عدم التوجه إلى باريس بعدما رفض أن تقتصر محادثاته مع نظيره الفرنسي على الشأن السوري.
وفي رد سريع، أعلن الرئيس الفرنسي أنه “جاهز في أي وقت” للقاء بوتين من أجل “دفع السلام”، خصوصاً في سورية. وقال هولاند أمام الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي، إن “الحوار مع روسيا ضروري، ولكن يجب أن يكون حاسماً وصريحاً”، لافتاً إلى أن هناك “خلافاً كبيراً” بين باريس وموسكو بخصوص الوضع السوري.
وكان الكرملين أكد، أمس الأول الإثنين، أن التحضيرات لزيارة بوتين إلى باريس “مستمرة” مع الرئاسة الفرنسية. كما أن السفير الروسي في باريس ألكسندر أورلوف أكد قبل ساعات قليلة من الإعلان عن إلغاء الزيارة، أن بوتين “سيأتي إلى باريس في 19 أكتوبر وسيناقش مع هولاند المواضيع الخلافية”.
وحسب مصادر مقربة من السفارة الروسية في باريس، فإن ما أثار حفيظة الكرملين هو تصريحات وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، الإثنين، التي أكد فيها أنه في حال استقبل هولاند نظيره بوتين في قصر الإليزيه فلن يكون ذلك من باب “الشكليات البروتوكولية” وإنما “للحديث عن الأزمة السورية وحقائقها”. كما أكد أن باريس تعتزم الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية لفتح تحقيق في جرائم حرب تُرتكب حالياً في حلب وتشارك فيها روسيا. هذا الكلام عن المحكمة الجنائية هو الذي جعل الكرملين يغيّر رأيه حول الزيارة ويعلن تأجيلها، بحسب المصادر نفسها.
بعض المراقبين اعتبر أن تصريحات هولاند بشأن استقبال بوتين من عدمه هي بمثابة زلة دبلوماسية، لأنه أخذ الكلمة بشكل علني ليعلن بأنه يتردد. وبدت تصريحات الرئيس الفرنسي وكأنها تساؤلات مع الذات أو ما قد يسمى بـ”دبلوماسية التردد”، وهو ما يتناقض مع الأعراف الدبلوماسية التي تتطلب درجة معينة من الوضوح والشفافية في المواقف. وإذا كان الهدف من تصريحات هولاند هو تهديد بوتين بعدم استقباله بشكل رسمي في الإليزيه، فإن بوتين بإلغائه هذه الزيارة بدا وكأنه أشد حسماً ووضوحاً من نظيره الفرنسي. كما أن بوتين بإلغائه هذه الزيارة يتخلص من عبء سماع الانتقادات الفرنسية للدور الروسي في الصراع السوري ومواصلته دعم نظام بشار الأسد في عمليات القصف والغارات على مدينة حلب رغم الإدانات الدولية.
والواقع أن التوتر الفرنسي الروسي وصل إلى ذروته الأسبوع الماضي في مجلس الأمن الدولي، حين قامت روسيا باستخدام حق الفيتو لمنع صدور قرار قدّمته فرنسا يدعو إلى وقف فوري للقصف على حلب. وهو ما شكّل ضربة للدبلوماسية الفرنسية التي كثفت من مساعيها في الأسابيع الأخيرة في محاولة لإنقاذ حلب من دمار شامل وكارثة إنسانية. وكان هولاند بعث بوزير خارجيته جان مارك إيرولت، الخميس الماضي، إلى موسكو قبل تصويت مجلس الأمن الدولي في محاولة أخيرة لتليين الموقف الروسي وضمان نجاح مشروع القرار الفرنسي بخصوص الهدنة في حلب، لكن إيرولت استُقبل ببرود شديد في موسكو ولم يجد أدنى تفهّم للشكاوى الفرنسية.
يُذكر أن التوتر الفرنسي الروسي ليس وليد الموقف من الصراع السوري، بل كان قد تفجّر مباشرة بعد وصول هولاند إلى الرئاسة عام 2012 بسبب الأزمة الأوكرانية. وهو ما جعل هولاند يلغي صفقة بيع سفينتي ميسترال إلى روسيا كان قد أشرف عليها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي عام 2011 وذلك في غمرة العقوبات التي فرضها الغربيون على موسكو، على خلفية اتهامها بدعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا.
ويبقى التساؤل الآن هو إلى أي حد قد تذهب فرنسا في مسلسل التوتر المفتوح مع روسيا، مع العلم أن مراقبين يرون أن باريس لا تملك أي وسائل ضغط فعالة ضد موسكو، وهولاند يعيش آخر أشهر ولايته الرئاسية وهو لم يعلن بعد ترشحه للانتخابات الرئاسية في مايو/ أيار المقبل والتي لا يملك حظوظاً كبيرة في النجاح فيها، في حين أن بوتين ما يزال سيد الكرملين القوي حتى إشعار آخر. كما أن انتقادات شديدة تُوجّه من جانب زعماء بالمعارضة اليمينية للأداء الدبلوماسي الفرنسي تجاه روسيا والصراع السوري. ويتوقع مراقبون أن عودة اليمين إلى الرئاسة الفرنسية إذا حصلت ستُتوّج حتماً بعودة الدفء إلى العلاقات الفرنسية الروسية مثلما كانت في عهد ساركوزي الذي تربطه علاقة جيدة ببوتين.