الجدير بالذكر أن الدول الخليجية شهدت في العقود الماضية، نتيجة اكتشاف النفط وبرامج التنمية الاقتصادية الطموحة جداً، نمواً غير مسبوق، بل وشاذّا في عدد سكانها، حيث ارتفع من 13,4 عام 1980 إلى 50,192,345 مليون نسمة عام 2013، منهم 69% عمالة مهاجرة من الدول الآسيوية، وتحديدا من بنغلادش والهند وإندونيسيا وباكستان والفيليبين، يعمل أغلبهم في القطاع الخاص (التشييد والبناء) وقطاع العمالة المنزلية. ويعتبر هذا الوضع السكاني الخليجي حالةً نادرةً في دراسات النمو السكاني، ذلك أنه لم ينتج من نمو طبيعي للسكان المواطنين، بل نتيجة زيادة العمالة والسكان المهاجرين، والذين فاقت نسبة نموهم أضعافاً مضاعفة لنسبة النمو السكاني لمواطني الخليج العربي.
وعلى الرغم من الاتجاه المعلن وغير المعلن للحكومات الخليجية، على المستويات الرسمية، للحد من هذا الارتفاع غير المنضبط للنمو السكاني لغير المواطنين، إلا أن الواقع يشير إلى استمرار هذه الزيادة، غير المتوقعة، في العقود المقبلة، نظراً لصغر حجم السكان المواطنين، وبالتالي، صغر حجم قواها العاملة، الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أو إغفالها بتاتا، ولا نبالغ إن قلنا إنها قد تكون قنبلةً مؤقتةً مُهددةً بخطر محتمل، حال انفجارها.
ومن الطبيعي أن ينتج هذا النمو السكاني غير المنضبط في خلل التركيبة السكانية، على المديين القصير والطويل، علاوة على بعض تداعياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا تنحصر أهم أوجه خلل التركيبة السكانية للدول الخليجية فقط في خصائصها الديمغرافية، من حيث إن ما يقارب 70% فما فوق من سكانها غير مواطنين (الأعلى نسبة في الإمارات 88% تليها قطر 86% حسب الإحصائيات المتوفرة ) ومن الذكور ، بل في تداعيات أخرى على النحو التالي:
أولاً، الآثار الاجتماعية، والمتمثلة في التأثير على الهوية الوطنية واللغة العربية والدين الإسلامي، وخصوصاً من خلال العمالة المنزلية التي يوكل إليها، بموافقة المواطنين حسب بعض الدراسات، بالإضافة إلى مهام الواجبات المنزلية، مهام العناية بالأبناء، بما في ذلك تعليمهم وتربيتهم. وذلك كله في غياب الرقابة الأسرية وقوانين الاستقدام التي لا تتطلب، أسوةً ببعض الدول الأجنبية مثل كندا، إتقانا أو إلماما جزئياً باللغة الأصلية للبلد (العربية في حالتنا). هذا بالإضافة إلى ما أحدثته العمالة المهاجرة بدعم أسواق العمل في القطاع الخاص من التحوّل إلى الإنكليزية، بوصفها لغةً للمال والأعمال، فأصبحت هي اللغة الرسمية في دولنا، على الرغم من أن دساتيرنا تشير، صراحةً، إلى أن العربية هي اللغة الرئيسية، الأمر الذي دفع صناع القرار إلى اتخاذ مبادراتٍ وإصلاحاتٍ، بل وإنشاء أجهزة لتعزيز اللغة العربية، وبالذات بين الأطفال والشباب. ولا مجال هنا لذكر ما أحدثه ذلك كله من آثار سلبية على هويتنا وعاداتنا، حتى أصبح بعضٌ منا في دول الخليج يشعر بالغربة في وطنه، نتيجة العادات والممارسات الدخيلة علينا، في وقتٍ تصارع فيه دول أوروبية من أجل الحفاظ على هويتها العلمانية ولغتها.. في أوطاننا.
ثانياً، الآثار الاقتصادية، والمتمثلة في استنزاف الثروات الاقتصادية لدولنا، وتحديداً عن طريق التحويلات المالية للعمالة المهاجرة إلى دولهم، والتي قدرتها دراساتٌ بنحو 30 مليارا سنويا، وتم تقديرها لعام 2012 بـ 55 بليون دولار. ويشكّل الأمر، في حد ذاته، معضلةً تنموية! فدول الخليج تملك رأس المال المتولد من عوائد النفط، القابل للنضوب في العقود المقبلة، ولا تملك رأس المال البشري الوطني، والذي تم استيعاضه بالعمالة المهاجرة. كما أن نسبةً كبيرةً لا تقل عن 70% من العمالة المهاجرة هم من العمالة غير/ شبه الماهرةـ والتي تعمل في قطاع التشييد والبناء أو التجزئة، الأنشطة التي تعتبر بعيدة جداً عن االنشاط الإنتاجي لاقتصاديات الدول الخليجية! علاوة على ذلك، نتج عن زيادة عدد السكان زيادة الضغط على خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية، الأمر الذي انعكس في ارتفاع تكلفة هذه الخدمات من ناحية، وزيادة الضغط عليها، نتجت في مطالباتٍ شعبيةٍ بإيجاد حلول عاجلة لـ “زحمة” هذه الخدمات، وعدم توفرها للمواطنين، وبالذات في مجالي الصحة والتعليم، وكذلك فرض ضرائب على غير المواطنين في استخدام بعض الخدمات.
ثالثاً، الآثار الأمنية والسياسية، والمتمثلة في التهديد الأمني للعمالة المهاجرة، سواء من خلال ارتفاع معدل الجريمة، أو بعض الإضرابات العمالية، والتي شهدتها مجتمعاتنا الخليجية أخيراً، والتي تُنذر بوجود قنابل بشرية قابلة للانفجار تحت أي ظرف، وفي أي وقت، الأمر الذي يتطلب ارتفاع تكلفة الحفاظ على الأمن الداخلي لمجتمعاتنا. الجدير بالذكر أن نظام الكفالة، والذي يُنظم عمليات استقدام العمالة المهاجرة، شهد أخيراً انتقاداتٍ كثيرة من بعض منظمات
حقوق الإنسان ومنظمات العمل، وكذلك بعض المؤسسات الإعلامية، والتي خلصت إلى مطالب جماعية بإلغاء نظام الكفالة. وعلى الرغم من استجابة دولتين خليجيتين لهذه المطالب والوعد بإلغاء نظام الكفالة (الكويت والبحرين)، وقيام أخرى ببعض الإصلاحات (السعودية وقطر والإمارات)، إلا أن المطالب العالمية تصاعدت وتضاعفت، حتى وصل بعضها إلى مطالب غير مباشرة بحقوق المواطنة من خلال التجنيس، الأمر الذي يعدّ ليس جديداً على دول الخليج، حيث طالبت الهند بتجنيس العمالة الهندية، واعتبارها عمالةً مهاجرة، وليست مؤقتةً، بناء على اتفاقية رقم 97 لسنة 1949، والتي وقعت عليها دول مجلس التعاون، وتنصّ على حق العمالة الهندية في اكتساب الجنسية، الأمر الذي رفضت الدول الخليجية الاستجابة له.
وعلى الرغم من اتخاذ دولٍ خليجية إصلاحاتٍ جذرية في سوق العمل، وسنّ سياسات ومبادراتٍ عديدة في التوطين، وإصلاح خلل التركيبة السكانية وسوق العمل، إلا أن بعض هذه الإصلاحات لم تحقّق نتائجها، وأخرى ما زالت حبيسة الأدراج، وبعضٌ آخر منها ما زالت محل نقاش وجدل وقبول واعتراض من وزير إلى مسؤول. والجدير بالذكر أن دول مجلس التعاون أقرّت وثائق وسياساتٍ لإصلاح هذا الخلل، مثل وثيقة الاستراتيجية السكانية لدول المجلس، استراتيجية التنمية الشاملة المطورة بعيدة المدى لدول الخليج (2010-2025)، كما تم إنشاء اللجنة المشتركة لدراسة العمالة الوافدة والتركيبة السكانية. وعلى الرغم من ذلك كله، ما زال الخلل السكاني بل ومتفاقماً.
فإلى متى يتم تجاهل هذه “القنبلة الموقوتة” أو إغفالها؟ أصبح خلل التركيبة السكانية لمجتمعاتنا الخليجية واضحاً وضوح العين في تداعياتٍ اقتصاديةٍ وأمنيةٍ واجتماعيةٍ وثقافية، بل أصبحت الدول الخليجية كمن يقف على مفترق الطريق، لديها خياران، أن تستبق الضغوط الدولية بالاستجابة لها، بما في ذلك تعديل قوانين الاستقدام وتجنيس العمالة المهاجرة وتوطينها، بإدخال إصلاحاتٍ وتحسيناتٍ على قوانين الاستقدام، وبالذات في القطاع الخاص، بما يضمن الحفاظ على حقوق العمالة أو أن تقوم بالإصلاحات الفورية لعلاج خلل التركيبة السكانية لصالح السكان المواطنين، بما يحقق التوازن المطلوب، قبل انفجار القنابل المؤقتة.