الفرات نموذجاً: التأثيرات المائية للاضطرابات في المشرق العربي

الفرات نموذجاً: التأثيرات المائية للاضطرابات في المشرق العربي

نهر الفرات داخل

يعد نهر الفرات مصدراً بالغ الأهمية للمياه والغذاء وأمن الطاقة في كل من تركيا وسوريا والعراق، حيث تتدفق مياهه تجاه الجنوب الشرقي من شرق تركيا إلى الخليج العربي لمسافة 2700 كم. وعلى الرغم من أهميته، فإنه يواجه أزمة خطيرة نتيجة للاستغلال المفرط لمياهه، والنمو السكاني المتزايد، والتلوث، فضلاً عن الصراعات الحالية في سوريا والعراق؛ الأمر الذي تسبب في تهديد البنى التحتية الرئيسية المرتبطة بالنهر، وإعاقة التعاون المائي بين الدول المشاطئة له.

في هذا الصدد، نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية “شاتام هاوس” دراسة في شهر أبريل 2015، تحت عنوان: (نهر الفرات في أزمة.. قنوات التعاون للنهر المُهدد)، أعدها كل من “نوار شموط” Nouar Shamout وهو خبير الإدارة المائية والأستاذ في قسم المياه والبيئة بكلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق، و”جلادا لان” Glada Lahn، وهي باحثة بارزة في معهد “شاتام هاوس”؛ حيث تتناول هذه الدراسة أهم التهديدات التي تواجه نهر الفرات، والتحديات التي تمثل عائقاً للتعاون بين الدول المشاطئة له، وسُبل مواجهة هذه التحديات.

تهديدات متعددة

اجتذب نهر الفرات الاهتمام الدولي منذ عام 2013، حيث تنافس المقاتلون في سوريا والعراق من أجل السيطرة عليه، وسعى تنظيم “داعش” لامتلاك معاقل استراتيجية على طول النهر، وكانت النتيجة وقوع مناطق مختلفة منه في يد أطراف حكومية وأخرى غير حكومية، وهناك من يدعي السيطرة على السدود الكبرى. ولذا ففي كثير من المناطق لا يتضح من لديه السلطة الفعلية على النهر.

في سوريا، سيطر تنظيم “داعش” منذ أوائل عام 2013 على سد “الطبقة”، والذي يعد أكبر السدود وخزان المياه الرئيسي والمسؤول عن تنظيم تدفق مياه نهر الفرات في سوريا. ومنذ ذلك الحين، انخفض منسوب المياه خلف السد بشكل كبير.

وفي العراق، سيطر داعش على سد الفلوجة، وأوقف تدفق المياه لحرمان المحافظات الجنوبية من الماء، في حين قام بإغراق عدد من المدن أعلى النهر بما في ذلك مدينة أبو غريب، ويبين هذا الحادث قدرة ورغبة التنظيم في استخدام المياه كسلاح. كذلك، أصبحت البنية التحتية للنهر أيضاً سبباً للتدخل الدولي في الصراع؛ ففي أغسطس 2014 اندلع قتال عنيف حول سد الموصل على نهر دجلة في شمال العراق، حيث حاول “داعش” السيطرة على السد، وتم صده من  قبل مجموعة من قوات البيشمركة الكردية البرية والضربات الجوية الأمريكية.

تاريخ مضطرب من العلاقات المائية

أوضحت الدراسة أن انعدام الأمن وعدم وضوح السلطة قد فاقم من التحديات المائية التي سبقت النزاعات الحالية، حيث واجه نهر الفرات مشاكل قبل وقت طويل من اندلاع الأزمة السورية عام 2011، فالتطورات السريعة في الدول المشاطئة للنهر (تركيا، وسوريا، والعراق)، وعدم التنسيق بينها قد تسببت في تغيير نظام تدفقه، مما أدى لانخفاض تدفق المياه في المصب بنسبة 40- 45% منذ أوائل السبعينيات من القرن المنصرم.

وأضافت الدراسة أنه خلال الخمسين عاماً الماضية تم بناء 32 سداً وقنطرة على نهر الفرات، وقد أدى تشييدها جنباً إلى جنب مع زيادة استخدام المياه في الزراعة، واستخدام المبيدات، وتطور الصناعة في دول النهر، إلى تدهور نوعية المياه المتدفقة، وتلوث البيئة. وتظل حقوق الدول المشاطئة للنهر محل نزاع بينها، وتتشابك مع القضايا الأخرى المرتبطة بسيادة الدول، وتاريخ العلاقات السياسية المشحونة بين هذه الدول.

جدير بالذكر أن نهر الفرات يعتبر المصدر الرئيسي للمياه لحوالي 27 مليون شخص في البلدان الثلاثة (تركيا، وسوريا، والعراق)، إلى جانب عشرات الملايين الذين يعتمدون على المواد الغذائية والطاقة التي يوفرها النهر. وقد أدى تدهور نوعية المياه المتدفقة إلى جانب الجفاف الذي شهده النهر خلال العقد الأخير من الزمن، إلى حدوث هجرة جماعية من المناطق الريفية المحيطة به في سوريا والعراق؛ ففي جنوب العراق، تسببت زيادة حدة التملح والتلوث في انتشار الأمراض ووقوع خسائر زراعية.

ونتيجة لذلك، فإن أوضاع التنمية البشرية مهددة على نطاق واسع في جميع أنحاء منطقة نهر الفرات. ومما يثير القلق استمرار خطط بناء السدود والبنية التحتية، خاصة مشروع جنوب شرق الأناضول في تركيا (GAP)، والذي شهد تطوراً كبيراً على نهري دجلة والفرات وروافدهما لدعم الطاقة المائية والري، ويهدف المشروع إلى دعم التنمية الاقتصادية في جنوب شرق تركيا، ولكن العديد من السوريين والعراقيين لديهم مخاوف كبيرة بشأن تأثيره على إمدادات المياه.

تحديات ملحة

تُصنف سوريا والعراق بالفعل ضمن سلسلة البلدان شحيحة المياه، وتعتبر تركيا عُرضة لتفاقم مشكلة المياه في المستقبل، ومن المتوقع أن تتفاقم مشكلة المياه في الدول الثلاث مع تغير المناخ؛ حيث يُتوقع أن تُشكل كل من التغيرات في مستوى تدفق المياه في النهر، وارتفاع معدلات التبخر خلال فصول الصيف الحارة، وتواتر الظواهر الجوية غير الطبيعية، تحديات رئيسية أمام حكومات الدول الثلاث. وسوف يكون لذلك تداعيات على المناطق المجاورة، لأنه سوف يضاعف من الكارثة الإنسانية، وسيؤدي إلى زيادة معدلات الهجرة نتيجة فشل إمدادات المياه، والخسائر الزراعية؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤثر سلباً على المصالح الاقتصادية للاتحاد الأوروبي وغرب آسيا.

وفي هذا الإطار، أكدت الدراسة على وجود تحديين ملحين يثيران مخاوف الدول الثلاث، وهما:ـ

التحدي الأول: تغير المناخ الذي تسبب في ارتفاع متوسط درجات الحرارة وزيادة حدوث الظواهر الجوية غير الطبيعية. وفي هذا السياق، يتوقع معهد الموارد العالمية WRI أن تتدهور أوضاع المياه على طول نهر الفرات بحلول عام 2025 بمقدار ثمانية أضعاف مقارنة بعام 2010.

التحدي الثاني: ضعف قدرة الدول المشاطئة للنهر على مواجهة هذه التحديات المتزايدة، سواءً بشكل  فردي أو جماعي.

وإلى جانب ما سبق، فقد أدى الصراع في سوريا والعراق إلى استنزاف القدرات المؤسسية، ولم يعد ثمة آلية لتبادل المعلومات أو الاستجابة لحالات الطوارئ في أنحاء حوض النهر، وذلك في الوقت الذي تتزايد فيه احتمالات وقوع أحداث تتطلب هذه الاستجابة، مثل الجفاف والتدمير المتعمد للبنية التحتية.

وأشارت الدراسة إلى أن التحديات التي تواجه نهر الفرات لا يمكن أن تتم مواجهتها من قِبل دولة واحدة، والواقع أن تاريخ ضعف التنسيق بين الدول المشاطئة للنهر يعتبر أحد العوامل التي تسببت في تدهور حالته؛ إذ على الرغم من مرور ما يقرب من قرن من إجراء المفاوضات الرسمية بينهم، فإنه لم يتم التوصل لاتفاق محدد، في ظل مفاوضات اتسمت بعدم الثقة، وضعف التواصل، وعدم وجود بيانات مشتركة موثوق بها.

في هذا الإطار، توجد ثلاثة عوامل رئيسية أعاقت التعاون بين الدول الثلاث، تتمثل في الآتي:

1 ـ وجود تاريخ من التنافس الإقليمي منع ترسيخ مفهوم تقاسم المياه، حيث لا توجد معاهدة شاملة أو طويلة الأمد بين تركيا وسوريا والعراق بشأن تقاسم المياه، وقد رفضت تركيا اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية لعام 1997، مما منع تطبيق المبادئ الدولية في هذه القضية.

2 ـ تسببت مركزية صنع القرار في كل دولة من الدول الثلاث في تقييد الصلاحيات الممنوحة لفرق التفاوض، مما أعاق من إمكانيات نجاحها.

3 ـ كانت المناقشات في الغالب ثنائية، على الرغم من تدفق النهر في ثلاث دول، حيث دائماً ما كان يجري استبعاد دولة منها في كل المفاوضات التي جرت.

أبرز التوصيات

أوضحت الدراسة أنه في ظل هذه التطورات، يتعين على السلطات المشاطئة للنهر النظر في النهج التعاوني بين الدول الثلاث للتخفيف من حدة الأزمة والاستجابة لها. ويرجع ذلك إلى حقيقة مفادها أن النهر يعتبر وحدة هيدرولوكية لا تعترف بالحدود السياسية، خاصة أن نهج التعاون الثنائي فشل في إدارة موارد النهر.

من هنا، تأتي أهمية التفاهم المتبادل والتعاون اعتماداً على الأساليب العلمية، لأن ذلك من شأنه أن يساعد على دفع السياسيين وممثلي الدول الثلاث نحو التوصل لحلول تتضمن تقاسم المنافع، لضمان استدامة المياه في المستقبل في البلدان الثلاثة، لاسيما أن كل دولة تتسم بمستوى مختلف من التنمية الاقتصادية، علاوة على التغييرات الديموغرافية الكبيرة، والاعتماد الكبير على أساليب زراعية كثيفة الاستخدام للمياه، مما يتسبب في زيادة التنافس على المياه.

وقدمت الدراسة عدداً من التوصيات، استناداً إلى أهداف قصيرة الأجل وطويلة الأجل. فبالنظر إلى الوضع الأمني في سوريا والعراق، وقطع العلاقات بين تركيا وسوريا، وانتشار نفوذ “داعش”، فإن استئناف المحادثات بين الدول المشاطئة للنهر غير وارد في الوقت الحاضر. ومع ذلك، فإنه من الممكن أن يقوم الخبراء المعنيون ببناء رؤية مشتركة بهدف تمهيد الطريق للتعاون الذي لا مفر منه في نهاية المطاف.

وعلى الرغم من محدودية البروتوكولات الثنائية التي تم توقيعها بين تركيا والعراق، وتركيا وسوريا، بين عامي 2008 و 2010، فإنها يمكن أن توفر الأساس لنهج أكثر إيجابية في التعامل مع المشكلة، فضلاً عن تجربة التعاون الدولي الناشئة بين أحواض النهر.

وقد تم اقتراح تشكيل لجنة خاصة بشؤون النهر، على أن يتم تشكيلها من خبراء من الدول الثلاث المشاطئة للنهر، وتتمتع بتفويض لدعم التعاون بينها، كما تم اقتراح العديد من الدراسات الأولية التي يمكن للجنة القيام بها، وتشمل نموذجاً قائماً على أسس علمية لنهري دجلة والفرات، والذي من شأنه أن يبدد الخلاف حول اعتبارهما حوض واحد أم حوضين منفصلين، ورسم الخرائط المتعلقة بالأراضي الزراعية التي تعتمد على مياه النهر، وما يرتبط بالبنية التحتية للطاقة.

ويمكن أن تشتمل أولويات عمل اللجنة على ما يلي:

1 ـ بناء قواعد بيانات تضم جميع الاتفاقات القائمة والخلافات المتصلة بالمياه، وتجميع المعلومات المتاحة عن النهر والأرصاد الجوية في كل دولة.

2 ـ تحديد الاحتياجات المائية والمطالب المتوقعة من كل دولة.

3 ـ وضع اتفاق دائم بشأن تقاسم المياه.

4 ـ بناء نظام للإنذار المبكر للتنبؤ بالحوادث المناخية غير الطبيعية في حوض النهر، والاستعداد في حالة احتمال حدوث فيضانات أو مجاعات.

5 ـ تعزيز الاستثمار عبر الإقليمي في مشروع جنوب شرق الأناضول في تركيا، مما يساعد على التخفيف من حدة المخاوف في سوريا والعراق.

6 ـ تشجيع مزيد من الترابط الاقتصادي بين الدول، والذي يمكن أن ينطوي على تصدير إمدادات النفط والغاز من العراق في مقابل الطاقة الكهرومائية من تركيا، وتجارة المواد الغذائية بين البلدان الثلاثة.

7 ـ مراجعة التشريعات المتعلقة باستخدام المياه وإدارتها في الدول الثلاث، من أجل توحيد الأنظمة واتباع أفضل الممارسات.

ختاماً، أكدت الدراسة على ضرورة الحفاظ على فتح قنوات الحوار بين خبراء الدول الثلاث وممثلي الحكومات، وقد يكون هناك فرصة للتنسيق بين تركيا والعراق بشأن تدابير قصيرة الأجل لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الملحة.

وبالإضافة الى ذلك، من الممكن إنشاء فريق عمل من الخبراء لرصد الأحداث التي تؤثر على سلامة النهر، وتقديم المشورة للسلطات المسؤولة والوكالات الإنسانية في حالات الطوارئ ذات الصلة بالمياه، والذي قد يساعد على سد الفجوة القائمة حالياً في حالة وجود أزمة.

 * عرض مُوجز لدراسة: (نهر الفرات في أزمة: قنوات التعاون للنهر المهدد”، والصادرة في شهر أبريل 2015 عن المعهد الملكي للشؤون الدولية “شاتام هاوس”.

 المصدر:

M. Nouar Shamout and Glada Lahn, The Euphrates in Crisis: Channels of Cooperation for a Threatened River (London, The Royal Institute of International Affairs, April 2015).

إعداد: إسراء أحمد إسماعيل

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المستقبلية