لقد خرج القطار السياسي الأميركي عن سِكته، ويبدو أنه أصبح أبعد من أي وقت مضى عن العودة إلى المسار الصحيح. وتخللت اتهامات كثيرة المشهد السياسي، مع إفصاح المعلقين عن قضايا مثل الغش، وارتفاع عدم المساواة الاقتصادية، والخلل في نظام تمويل الحملات الانتخابية، والصحافة غير المتوازنة. لكن الشارع لا يمكن أن يعالج هذه العيوب الحقيقية في النظام بصفة مباشرة. ولعل ما يمكنه القيام به هو معالجة مشكلة أساسية أخرى: انخفاض نسبة مشاركة الناخبين.
من حسنات الديمقراطية أن الناس يستطيعون إحداث تغيير إذا صوتوا. وقد لا يحدث التغيير بالسرعة التي يريدون، وقد لا يكون المرشحون مثاليين دائماً. لكن الناخبين يمكن أن يرسموا مستقبل بلدهم.
في الوقت الحاضر، يشعر العديد من الناخبين بخيبة أمل من الناحية السياسية. ونظراً لكون الأغنياء والأقوياء يمسكون بالخيوط، يشعر الناس العاديون بأنهم لا يتمتعون بأي تأثير على نتائج الانتخابات. ويستنتجون أنه من الأفضل عدم التسجيل أو المشاركة في التصويت. ويسود هذا السلوك في أوساط الشباب وبعض الأقليات العرقية، ولا سيما اللاتينيين والآسيويين الأميركيين.
لا شك أن الشكاوى حول السياسة الأميركية مبررة؛ حيث ما تزال اللامساواة في الدخل آخذة في الارتفاع، باعتبار أن 1 % من السكان يملكون كمية غير متكافئة من الثروة، في حين ما يزال دخل أفراد الطبقتين المتوسطة والدنيا راكداً إلى حد كبير. وتخضع السياسة لسلطة المال التي تتجسد في نفوذ جماعات المصالح، مثل الجمعية الوطنية للبنادق.
من الجدير بالذكر أن المال في السياسة الأميركية يُصرف على نطاق واسع في الدعاية والأنشطة الأخرى المتعلقة بالحملات الانتخابية، ولا يذهب إلى جيوب المسؤولين الفاسدين. لكن هناك حاجة ملحة لمعالجة دور كبار المتبرعين. وينبغي إلغاء قرار المحكمة العليا للعام 2010 في قضية المنظمة غير الحكومية “سيتيزنز يونايتد” (بشأن تمويل الحملات الانتخابية)، الذي فتح الباب على مصراعيه أمام المساهمات السياسية للشركات. كما يجب اتخاذ خطوات ملموسة لتحقيق المساواة في الدخل.
لكن هناك طريقة يمكن للمواطنين من خلالها معالجة عدم المساواة وتمويل الحملات الانتخابية: التصويت. فالمواطن الذي يبقى في البيت، بدلاً من التصويت لصالح المرشح الذي يفضله، هو مجرد شخص يعزز تأثير القط السمين الذي يتبرع للحملة الانتخابية لصالح المرشح المنافس. وإذا كان الناس يرغبون في التأثير على مستقبل بلدهم، فيجب عليهم القيام بدورهم في انتخاب المرشح الأنسب.
كما جرت العادة، في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجرى في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ستقوم مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، بالدفاع عن برنامجها السياسي يشجع المزيد من المساواة الاقتصادية، بما في ذلك تطبيق نظام ضريبي أكثر تقدمية، ورفع الأجور، وتوفير التأمين الصحي الشامل. وبدعم من الكونغرس، ستستطيع كلينتون تنفيذ هذه السياسات. أما المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، فيفضل سياسات معاكسة: خفض الضرائب على الأغنياء، والحفاظ على انخفاض الأجور، والتراجع عن إصلاحات الرعاية الصحية.
وبالمثل، فإن الديمقراطيين يريدون إلغاء قرار المحكمة العليا لصالح تمويل الحملات الانتخابية، في حين أن الجمهوريين يفضلون الإبقاء على هذا القرار. وبما أن الرئيس القادم للولايات المتحدة سوف يقوم بتعيين قاض واحد في المحكمة العليا على الأقل (وربما ما يصل إلى أربعة قضاة)، فإن التصويت لكلينتون قد يكون تصويتاً لإبطال هذا القرار الذي أسهم في خيبة أمل الناخبين. وإذا كانت هذه النتيجة غير مضمونة، فهناك شيء واحد مؤكد: إن الموقع الإلكتروني الغاضب (بلوك) بسبب التلاعب في النظام، أو التصويت لصالح مرشح حزب ثالث لا يتوفر على أي فرصة للفوز، لن يكون له أي تأثير -أو ربما سيكون له تأثير أسوأ.
في واقع الأمر، يمكن أن يسفر التصويت الاحتجاجي أو العقابي لصالح مرشح حزب ثالث عن نتيجة أبعد بكثير من القيم التي يؤمن بها الناخب بالمقارنة مع التصويت لمرشح لديه رؤية تشبه إلى حد كبير الخيار “المثالي”. وفي العام 2000، صوت 2.9 مليون ناخب من الذين أدلوا بأصواتهم لصالح مرشح حزب الخضر، رالف نادر، وهو ما أسهم في فشل المرشح الديمقراطي آل غور في الانتخابات.
وإذا لم يكن جميع الذين صوتوا لصالح نادر يفضلون آل غور على منافسه الجمهوري، جورج دبليو بوش، فإن الأدلة تشير إلى أن واحدا من اثنين كانوا يحبذون غور. ولو صوت أنصار نادر لصالح مرشح حزب كبير، لمنحوا غور ما يكفي من الأصوات لتأمين فوزه -خسر فلوريدا فقط بـ537 صوتا– ولانتخبوا رئيسا أكثر انسجاماً مع قيمهم.
في الانتخابات المقبلة، يهدد مرشح جديد لحزب الخضر، جيل شتاين، باجتذاب أصوات من كلينتون، لصالح ترامب. وبينما قد لا تكون كلينتون المرشحة المثالية بالنسبة للعديد من الذين سيصوتون لشتاين، فإن برنامجها بالتأكيد أقرب بكثير إلى “الخُضر” وليس إلى ترامب. ويمكن أن يؤدي التصويت الاحتجاجي، جنبا إلى جنب مع مقاطعة الانتخابات، إلى نتائج كارثية أو عكسية بالتأكيد.
ينبغي أن يكون هذا الخطر واضحاً بقوة. فبالرجوع إلى تجربة المملكة المتحدة في استفتاء حزيران (يونيو) على عضوية الاتحاد الأوروبي، عندما تبين أن 52 % من الأصوات كانت لصالح “مغادرة” الاتحاد الأوروبي، غضب الكثير من الشباب. وكان ما يقرب من 75 % منهم في سن 18-24، يريدون البقاء في الاتحاد الأوروبي. ولكن الثلث منهم فقط صوتوا في الواقع. وفي الوقت نفسه، أدلى أكثر من 80 % من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 65 وما فوق بأصواتهم، لصالح الخروج إلى حد كبير. ولو ذهب الشباب إلى صناديق الاقتراع، بنسبة تعادل نصف المسنين فقط، لتحولت النتيجة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي.
وجدت بعض الدول وسيلة ناجعة لتعزيز مشاركة الناخبين. فعلى سبيل المثال، جعلت أستراليا التصويت إلزامياً، مع غرامة مالية صغيرة لعدم الامتثال. ونتيجة لذلك، فإن نسبة مشاركة الناخبين تصل إلى 94 %، في المتوسط، مقارنة مع 57 % في الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام 2012. ومن شأن خطوة أقل جذرية، والتي قد تتخذها الولايات المتحدة، المساعدة على ذلك، كنقل يوم الانتخابات من يوم الثلاثاء إلى عطلة نهاية الأسبوع، لإتاحة الفرصة للذين لا يستطيعون ترك عملهم.
ويمكن المجادلة بأن التصويت يتطلب بعض الجهد والتحفيز، من أجل إقناع أولئك الذين لا يعلمون أو لا يهتمون بالسياسة. لكن هذه الحجة تنطبق فقط على بعض من أولئك الذين لا يصوتون. ويتابع العديد من الناس الآخرين، وخاصة في الولايات المتحدة، مجريات الأخبار ويهتمون بالسياسة الوطنية، لكنهم يمكثون في بيوتهم يوم الانتخابات مُعتقدين أن أصواتهم لا تهم. لكن الحقيقة هي أن أصواتهم تحدد نتيجة الانتخابات.
قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في المؤتمر الوطني الديمقراطي في تموز (يوليو) عندما صرخ عدد قليل من المندوبين عند ذكر اسم ترامب: “لا تصرخوا. صوتوا!”، وهذه هي الرسالة التي يجب تكرارها، مثل اللازمة، حتى حلول شهر تشرين الثاني (نوفمبر).
جيفري فرانكل
صحيفة الغد