الآن، حين يبدو أننا خسرنا العراق، يحب الجمهوريون أن يلوموا إدارة الرئيس باراك أوباما على هذه الخسارة. وقد كرر حاكم ولاية إنديانا، مايك بنس، هذا الاتهام في مناظرة نائب الرئيس هذا الأسبوع، مدعياً أنه “لأن هيلاري كلينتون فشلت في إعادة التفاوض على اتفاقية وضع القوات، التي كانت ستسمح لبعض القوات الأميركية المقاتلة بالبقاء في العراق وتأمين المكاسب التي حققها الجنود الأميركيون بشق الأنفس بحلول العام 2009، استطاع داعش إعادة بناء نفسه والخروج من الصحراء”. وجعلتني حقيقة أن سيناتور فيرجينيا تيم كين سمح لهذا الأمر بالمرور من دون تفنيد، جعلتني أتساءل عما إذا كان قد شعر بأن أي رد يختاره كان سيشكل خسارة.
في الأثناء، يسخر أولئك منا الذين في زاوية أوباما، بشكل أو بآخر، من هذا الزعم باعتباره إشاعة حزبية مختلقة أخرى -“تفكير متمن”، كما وصفه لورنس كورب في العام الماضي، لدى أولئك الذين “يحاولون توجيه اللوم إلى أوباما”. لقد كان العراقيون هم الذين خسروا العراق، وفوق الكل رئيس الوزراء في حينه نوري المالكي، الرجل الشيعي القوي الذي لم يستطع أن يرى أبعد من الهوية الطائفية، وبذلك انقلب على نفس السنيين الذين كانوا قد حاربوا سلف “داعش”، تنظيم القاعدة في العراق، إلى جانب القوات الأميركية. وفي نهاية المطاف ألقى المالكي بكل رهاناته مع إيران، القوة الشيعية الكبيرة في المنطقة، والتي كانت راغبة جداً في دعم حملته ضد السنة.
يجب توجيه معظم اللوم إلى المالكي وإيران، وإلى الرئيس السوري بشار الأسد الذي حول احتجاجات سلمية ضد حكمه إلى حرب أهلية، والتي تمكن “داعش” من الانبعاث من خلالها.
وبالإضافة إلى ذلك، لو لم يشن جورج دبليو بوش حربه على العراق، لما كان بمقدور “داعش” استغلال الفراغ هناك أيضاً. ولكن، هل هناك أي شيء على الإطلاق يدعم إدعاء بينس بأن أوباما، أيضاً، يتحمل بعض اللوم عن تبديد، أو الفشل في التعويل على تلك المكاسب التي تحققت بشق الأنفس؟” أعتقد أنه يوجد شيء.
بالنسبة لأوباما في العام 2008 حين كان مرشحاً رئاسياً، كانت أفغانستان هي الحرب الضرورية، وكان العراق هو الفشل الذريع الذي يستهلك الدم والمال الأميركيين. وعندما زار أوباما العراق في تموز (يوليو) من ذلك العام، وفق مايكل غوردون وبيرنارد ترينر، مؤلفي “نهاية اللعبة”، وهو تقرير ضخم عن حرب العراق، قال أوباما للقائد الجنرال ديفيد بترايوس إن الولايات المتحدة في حاجة إلى سحب قواتها بسرعة من العراق لأن “أفغانستان هي الجبهة المركزية في الحرب على الإرهاب”. وفعلياً أجاب بترايوس بالقول: “العراق هو ما تقول القاعدة إنه الجبهة المركزية”. وشرح أنه لم يسبق وأن كان العراق كذلك، لكنه أصبح كذلك الآن.
في ذلك الحين، كان بترايوس يعرب عن وجهة نظر أقلية، بينما كان أوباما يعرب عن وجهة نظر يتم تبنيها على نطاق واسع. ولأن الجمهور الأميركي كان متعباً للغاية من الحرب في العراق -نظراً لأن النظرة إليها كانت تعتبرها بشكل واسع خطأ كارثياً- وكانت قلة من الناس على استعداد لقبول فكرة أن حرب العراق أصبحت بالرغم من ذلك الحرب الضرورية. ومع ذلك، نستطيع الآن بالنظر وراء رؤية أن ذلك كان واقع الحال بكل وضوح. وكانت منظمة القاعدة في العراق وحدة الشبكة الإرهابية الأسرع نمواً والأكثر ربحية أصلاً بينما كان أسامة بن لادن وطاقمه محاصرين في جبال باكستان.
دعونا نتخيل للحظة أنه على الرغم من إسناد حملته على معارضته لحرب العراق، فقد اقتنع أوباما بادعاء بترايوس، وقرر أن حرب العراق كانت ضرورية مثل أفغانستان على الأقل. هل كان يستطيع القيام بشيء من شأنه إحداث فارق؟
أثار بينس الموضوع المثير للأعصاب، والمتعلق بـ”اتفاقية وضع القوات” التي رفض العراقيون التوقيع عليها في العام 2011، بحيث فرضوا سحب كل القوات الأميركية من العراق. ولطالما أشار مسؤولو أوباما بالإضافة إلى مراقبين محايدين، إلى أنه نظراً لأن العراقيين رفضوا تأمين القوات الأميركية ضد أي إجراء قانوني محتمل، فإن واشنطن لا تستطيع الموافقة على أي صفقة. ومع ذلك، وطبقاً لتقارير متعددة (بما فيها التقرير الوارد في “نهاية اللعبة”)، فقد وافق المالكي على وضع التفاهم في اتفاقية تنفيذية، لكن إدارة أوباما أصرت على أن يحظى بموافقة البرلمان -وهو ما قال المالكي إنه لا يستطيع تأمينه. وقررت إدارة أوباما عدم خوض تلك المخاطرة لأنها لم تعتقد بأنها تحتاج إلى الإبقاء على قوات في العراق. ومع حلول الوقت الذي أصبح فيه الموضوع في المقدمة في صيف العام 2011، كان أوباما مستعداً -أمام مواجهة ضغوط موازنة بعد ثلاثة أعوام من الركود ووجود موطئ قدم عسكري متنام في أفغانستان- لإرسال عدد قليل من القوات الأميركية، نحو 3.500 جندي.
وكانت وزارة الدفاع الأميركية طلبت إرسال 16.000 جندي. ومن نافلة القول إنه حتى مع إرسال وحدة بتلك الضخامة، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع سحق تنظيم القاعدة: كانت حملة المالكي لملاحقة القبائل السنية والزعماء السياسيين تصنع المتطرفين بسرعة أكبر بكثير مما تستطيع القوات الأميركية استهدافهم. لكن ديريك شوليت -الذي كان ساعد في صياغة سياسة العراق في وزارة خارجية أوباما والبيت الأبيض ووزارة الدفاع- يعترف في كتابه “اللعبة الطويلة” حول استراتيجية أوباما العالمية، أنه حتى وجود “قوة مقيمة صغيرة” كان سيعطي الإدارة بصيرة أفضل في الإخفاقات المتراكمة للقوات الأمنية العراقية -وربما كانت لتمنع أيضاً استهانة المسؤولين بـ”داعش” واعتباره مجرد “فريق رياضي صغير”، كما قال أوباما.
ثمة شيء واحد تعلمته الولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان على حد سواء، وهو أن الجيش يستطيع كسب المعارك، لكنه لا يستطيع حل المشاكل التي تكون سياسية في طبيعتها. وهنا أيضاً ارتكبت إدارة أوباما أخطاء خطيرة في الحكم. كنت سافرت في العام 2009 إلى العراق مع نائب الرئيس جو بايدن الذي عهد إليه الرئيس أوباما بإدارة ملف العراق. ومع أنه كان قلقاً من غرائز المالكي الطائفية، فقد أكد لي بايدن أن سياسة العراق التي تزداد صخباً سوف تجبر القادة على متابعة الحصول على القبول خارج قاعدتهم الخاصة. وقال: “هؤلاء الناس يرتدون سراويلهم في ساق واحدة كل مرة… إنهم يظلون سياسيين”. لكن بايدن كان مخطئاً؛ فقد استطاع المالكي، مع دعم إيران المستمر، أن يتبع أسوأ غرائزه بأمان. ولم تفرز الديمقراطية التعددية، وإنما أفرزت أشكالاً متنافسة من القومية العرقية.
كان المالكي هو الرجل الخطأ بالنسبة للعراق والولايات المتحدة على حد سواء، ويقول منتقدو الإدارة إنه كان باستطاعة -ومن واجب المسؤولين الأميركيين- بعد الانتخابات البرلمانية في العام 2010 والتي خسر فيها المالكي بفارق ضيق لصالح الحركة القومية العراقية، أن يعفوه من العمل. ومرة أخرى، من السهل جداً المبالغة في تقدير النفوذ الأميركي. في العام 2014، ذكر ديكستر فيلكينز في مجلة “النيويوركر” أن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في إيران، توسط في صفقة بين القادة العراقيين للإبقاء على المالكي في منصبه. وعند ذلك، سعى الدبلوماسيون الأميركيون إلى إنقاذ الوضع عبر إقناع المالكي بخلق وظيفة رفيعة جديدة لزعيم الحركة القومية العراقية إياد علاوي؛ وضمن المالكي أن يكون علاوي خاليا من أي مسؤولية فعلية، لكن الصفقة سرعان ما انهارت.
لكن حقيقة أنك لا تستطيع فعل كل شيء لا تعني أنك لا تستطيع فعل أي شيء. وتماماً مثلما تخلى بوش عن أفغانستان فعلياً من أجل التركيز على العراق، الحرب التي اهتم بها فعلاً، فإن أوباما سمح للعراق بالتعثر عندما أعلى من شأن “الحرب الجيدة” في أفغانستان. وكان ريان كروكر، السفير الأميركي لدى العراق في العامين 2007-2009 حاجج بأنه نظراً لأن التواجد الأميركي قد منع المجتمعات العراقية من تمزيق بعضها بعضا إربا، فإن “فك الارتباط أعادهم جميعاً إلى التفكير من نقطة الصفر”. وقد اعتقد أوباما بأن العراقيين لن يصبحوا معتمدين على أنفسهم إذا بقيت الولايات المتحدة عندهم للتوسط في حل كل خلافاتهم. ولعل حقيقة إرساله 4.500 جندي الآن إلى ذلك البلد، تقف لتكون الدليل الأكثر سطوعاً خطأ ذلك الافتراض، كما تبين.
في لحظة إدارة الأميركيين ظهورهم للعالم وبناء أسوار حولهم من أجل تشذيب حديقتهم الخاصة، يكون لدى الرئيس إغواء قوي بإقناع ذاته بأن الأمور ستسير سيراً حسناً بشكل كافٍ من تلقاء نفسها، أو حتى أن قدر التواجد الأميركي هو أن يجعل الأمور أسوأ. وهذا هو الموقف الذي تبناه أوباما في العراق وسورية على حد سواء. وفي الحقيقة، تبين أن غياب الولايات المتحدة أكثر سمية وضرراً من تواجدها. وبأمانة، لا أعرف كيف سيكون الرئيس الأميركي التالي، حتى على افتراض أنها هيلاري كلينتون، قادرا على إقناع الشعب الأميركي بأن الانخراط، حتى في أماكن فوضوية وبشعة، قد يكون أفضل من فك الارتباط. وسيكون عليها أن تجرب.