أن يتمتع باراك أوباما، قبل أسابيع من نهاية فترة رئاسته الثانية، بنحو 55 في المائة من رضا الناخبين الأميركيين، وفق أحدث استطلاعات الرأي، لأمر جدير بالاهتمام. إنه كذلك، خصوصًا، مع تراجع سمعة أميركا في الخارج، وتدني وقارها.. لدرجة تجرؤ ميليشيا يمنية تابعة لإيران على استهداف إحدى سفنها الحربية ثلاث مرات خلال بضعة أيام!
نهاية الفترات الرئاسية، الثانية بصفة خاصة، في الولايات المتحدة تشير إلى «تعب» الناخب من سيد البيت الأبيض. وحتى الرؤساء «الكاريزميون»، مثل رونالد ريغان وبيل كلينتون، لم يحظوا بالشعبية التي ما زال يحظى بها أوباما، إذا كنا نصدق الاستطلاع الأخير. وبالأخص، أن نسبة 55 في المائة أعلى بكثير من أعلى رقم تقديري حصل عليه حتى الآن أي من المرشحين الحاليين للرئاسة؛ الديمقراطية هيلاري كلينتون والجمهوري دونالد ترامب. فما السرّ في شعبية أوباما داخل أميركا، وهو الذي فقد كثيرًا من وهجه خارجها، بل بلغ الحضيض في بعض مناطق العالم، لا سيما الشرق الأوسط؟
الأرجح أن ثمة سببين مهمين جدًا:
السبب الأول، هو الاستقرار الداخلي الذي حققه أوباما على صعيد شبكة الأمان الاجتماعية، سواء بالنسبة للرعاية الصحية، وتدني معدلات البطالة، وتحسّن أوضاع الاقتصاد ومستوى معيشة المواطن العادي الذي هزّته الأزمة المالية الكبرى عامي 2008 و2009 وتداعياتها. ومعلوم أنه في الدول الديمقراطية يحكم المواطن على أداء حاكمه في ضوء مصالحه المباشرة، قبل أي اعتبار آخر. ولهذا السبب، كسب بيل كلينتون معركته الانتخابية مع جورج بوش الأب عام 1992، تحت شعار: «إنه الاقتصاد، يا غبي».. بينما كان الرئيس الجمهوري وقادة حزبه مستغرقين بنشوة إنجازهم تحرير الكويت عام 1991. ثم فاز باراك أوباما بالرئاسة عام 2008، تحت شعار «التغيير» السحري الذي شكل الرفض الفعلي للغزو والاحتلال الكارثيين للعراق والأزمة المالية الخانقة التي اضطرت معها سلطة تبشّر بقدسية «اقتصاد السوق» عمليًا لـ«تأميم» مؤقت لبنوك وشركات صناعية وصناديق إقراض عقاري.
والسبب الثاني، المرتبط بسابقه، هو قنوط الأميركيين من المغامرات العسكرية والسياسية الخارجية، وميلهم إلى الانكفاء للاعتناء بأولوياتهم المعيشية. ومن ثم، فإن ما يعتبره كثيرون – وبالذات في منطقة الشرق الأوسط – تخاذلاً، بل خيانة من واشنطن لحلفائها على امتداد العالم، يراه المواطن والناخب العادي الذي لا يفهم لماذا على أولاده أن يموتوا في أصقاع بعيدة، سياسة حكيمة وحصيفة.
إضافة إلى هذين السببين، من الواضح أن الحزب الجمهوري، المُفترض فيه أن يشكل البديل الآيديولوجي للديمقراطيين، ذهب بعيدًا في استسلامه لغلاة اليمين، سواء من داخل أجنحته الحزبية أو اليمينيين المتطرفين الهامشيين من خارج المؤسسة الحزبية. هؤلاء – ومنهم جماعة «حفلة الشاي» وزمر الإنجيليين الأصوليين والعنصريين البيض المسيحيين – اخترقوا الحزب، وتغلغلوا في بنيته خلال العقود الأخيرة، واستولوا على شبكة تنظيماته، وفرضوا جدول أعمالهم عليه. ومن الثابت أن الحزب الجمهوري اليوم يمكن أن يكون أي شيء إلا الحزب الذي رشح أبراهام لنكولن للرئاسة، وسلّمه لواءه.
مجرّد عبارة «حزب لنكولن»، التي يحلو للجمهوريين تردادها كالببغاوات خلال المؤتمرات الوطنية لحزبهم، إهانة حقيقية للرئيس العظيم، الذي خلّد اسمه بالمحافظة على وحدة أميركا، وأسهم بتحرير العبيد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وليس أدل على ذلك من أن الأصوات الإنجيلية والعنصرية المتزمتة في ولايات الجنوب حوّلت هذه الولايات معاقل حصينة للحزب الجمهوري، بعدما كانت الحرب الأهلية (1861 – 1865) التي انتصر فيها لنكولن (الجمهوري) على انفصاليي الجنوب قد أنهت عمليًا وجود الجمهوريين السياسي فيها حتى الحرب العالمية الثانية. وفعلاً، لم يبدأ الحزب الجمهوري مسيرة العودة إلى الجنوب إلا بعدما صار حزب «اليمين المحافظ» في وجه الديمقراطيين المتجهين يسارًا.. نحو الليبرالية.
يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، يختار الأميركيون رئيسًا جديدًا (أو رئيسة جديدة) يبدأ (أو تبدأ) عهدًا جديدًا في البيت الأبيض يوم 20 يناير (كانون الثاني) 2017. والمرجح أن يكون العهد الجديد مختلفًا عن عهد باراك أوباما، بصرف النظر عمن سيفوز، المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون أم منافسها الجمهوري دونالد ترامب؛ ذلك أن أيًا من المرشحين الاثنين يختلف جوهريًا عن الرئيس الحالي.
وبجانب الاختلاف البديهي في أن كلينتون – إذا فازت – ستكون أول امرأة تتولى الرئاسة، وأن ترامب سيكون أول «طارئ» لم يسبق له تولي أي مسؤولية سياسية يدير المكتب البيضاوي، فإن شخصيتي كلينتون وترامب وثقافتيهما السياسيتين (على تنافرهما) ونظرتيهما إلى الولايات المتحدة ودورها في العالم تختلفان عن شخصية أوباما وثقافته ونظرته. فكلينتون وترامب لا يؤمنان، مثلاً، بأن أميركا بالضرورة قوة متغطرسة ومتجبرة وعدوانية عليها الاعتذار من خصومها والانقلاب على حلفائها.
أيضًا كلينتون وترامب – رغم الفوارق بينهما – أقل اعتمادًا على «مافيا» صغيرة من المقرّبين، وأكثر التزاما بالتوافقات العريضة.. كلينتون مع كتل الكونغرس و«اللوبيات» الليبرالية والمطلبية، وترامب مع «اللوبيات» المالية والصناعية والدينية المحافظة.
ربما من السذاجة، أو التفاؤل المفرط، أن يتوقع المتابع انقلابًا في سياسة «الرئيسة» هيلاري كلينتون إزاء الشرق الأوسط، مثلاً. لكنها تظل غير مكبّلة بالاتفاق النووي الإيراني، ولا متواطئة مع طهران ضد حلفاء واشنطن التقليديين في العالم العربي وغرب آسيا، كحال أوباما. وطبعًا «الرئيس» ترامب، على الرغم من مواقفه المثيرة للجدل – وبالأخص إزاء روسيا – ستكون لديه مقاربات مختلفة عن مقاربات أوباما و«مطبخه السياسي» تجاه قضايا العالم والشرق الأوسط والإسلام والإرهاب وعلاقات واشنطن مع خصومها.. وما تبقى لها من أصدقاء.
يوم 8 نوفمبر، ستطوى في واشنطن صفحة مؤلمة بالنسبة للعالم العربي، بقدر ما هي طيبة لـ55 في المائة من الأميركيين. ولكن مع أن القرار أميركي والمصلحة أميركية، من حقنا مصارحة الناخب الأميركي بأن السياسة الخارجية بذر وحصاد، وما بذره أوباما من سلبية لن تظهر سنابله إلا بعد حين.
وحينئذٍ، طال الزمن أو قصر، سيكون تقييم التاريخ لرئاسته وتركته السياسية أصدق وأكثر موضوعية.
إياد أبو شقرا
صحيفة الشرق الاوسط