انطوت “معركة دابق” على أسوأ لحظات الحياة، فكانت بمثابة معركة فاصلة بالنسبة للعديد من أطراف النزاع، حيث تنبأ العالم أن تشهد “دابق”، وهي مدينة تقع في شمال سوريا، معركة مروعة، حتى تخلى عنها تنظيم الدولة بالعراق (داعش)، بعد مقاومة استمرت عدة أيام قليلة، أظهر فيها محاولات ضئيلة للإبقاء عليها، لكنها بائت بالفشل.
لكن خلافة “تنظيم الدولة” الناشئة، تواجه العديد من المخاطر التي قد تهدد بفنائها، بسبب استمرار فقدان “داعش” لسيطرته على العديد من أراضيه خلال هذا العام، ولم يكتف بهذه المواقف فقط، إنما قد تُهَدَد الخلافة أكثر وأكثر، مع اقتراب المعارك المستقبلية في الموصل والرقة، فقد أكدت العديد من التقارير فقدان داعش لسيطرته على العديد من المناطق، بمرور أول تسعة أشهر من هذا العام، حيث بلغت خسارته ما يعادل تقريبًا حجم جزيرة “سريلانكا”، في الأراضي السورية والعراقية.
بينما كان يراقب العالم أهوال الحرب في حلب باهتمام شديد، كان قرار داعش بإعلان الحرب على الجميع، بمثابة تصريحٍ أعطى العالم مبررًا لاستهداف إرهابهم، مُستخدمين القوات الجوية لدك دفاعاتهم، بمساعدة تركيا والمقاتلين السوريين المدعومين من قبلها، فاستعادوا السيطرة على مدينة “دابق” بسهولة شديدة.
شهد أغسطس الماضي، مرور عامين منذ أن بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة عمليات قصف داعش، عن طريق أكثر من 14 ألف ضربة جوية، استهدفت 26 ألف بؤرة داعشية، فأدت هذه الهجمات إلى مقتل آلاف المقاتيلين المنتمين الى جماعة داعش، أو إلى فرار العديد منهم من مناطق تمركزهم، فنتج عن ذلك تدمير معدات وأصول بلغت قيمتها ملايين الدولارات، إلى جانب قطع طرق تجارية وإمدادية عديدة، فتسبب في خسائر فادحة للعالم أجمع.
وتعد خسارة داعش لسيطرته على “دابق”، خسارة فادحة، حيث يعد داعش حربه في “دابق” حربًا مُقدسةً ذات أهمية كُبرى لهم، فاطلق اسم مدينة “دابق” على صحيفته الشهرية.
قيمة رمزية
يبالغ داعش في استخدام مصطلح “القيمة الرمزية”، دون تفسير أسباب حدوثه أو استيعابه، فمثلا، نجد أن في مثل هذا الموقف، ساهم انسحاب مقاتلي داعش في الحفاظ على مواردها، من أجل معارك أكبر مقبلة، مع العلم أن اللجوء الى استخدام التفسير الديني لتبرير هزيمة داعش في دابق، كمصدر تشريعي مقبول، مٌعتبرة هزيمة دابق “اختبارًا من الله”، لقياس مقدار قوة إيمانهم وعزيمتهم.
قال أحمد عثمان، قائد فرقة السلطان مراد، أحد الفرق المشاركة في المعركة، معلقًا على الهزيمة: “انتهت أسطورة معركة داعش الكبرى في دابق”، بينما صرح وزير الدفاع البريطاني في مؤتمر صحفي بأن “صناعة الأساطير وسيلة يتاجر بها داعش، فانتصاراتهم العسكرية هي أكبر أساطيرهم الوهمية”.
وانخفضت قدرات داعش الإعلامية، بعد أن استخدم جميع الوسائل الدعائية المتاحة، ليوضح أن معركة “دابق” لم تكن المعركة المعنية، بكونها أعظم معارك داعش المستقبلية، فبالرغم من تصريحات داعش الصارمة، فإن التنظيم يميل إلى البرجماتية الواقعية، أكثر مما قد يبدو عليها.
وبالفعل، نشر “داعش” في يوليو من العام 2014، أول إصدار لصحيفته الشهرية، تحت اسم “دابق” -مع أن المدينة نفسها كانت تقع تحت سيطرة المعارضة السورية آنذاك، فهي لم تخضع لسيطرة داعش إلا بعد سلسلة من المعارك بينهم في شهري أغسطس وسبتمبر من العام 2015.
فإذا كان داعش يعد مدينة “دابق” أداة يستخدمها من أجل استقطاب عناصر جديدة للانضمام إليه، ليعمل على تجهيز قواته العسكرية من أجل خوض آخر معاركه المستقبلية، في حربه ضد ما يطلقون عليه “الحملات الصليبية”، فستظل مدينة “دابق” تُمثل هذه القيمة الرمزية بالنسبة لهم.
ومن الجدير بالذكر، أن سوريا كانت عبارة عن منطقة يستغلها داعش لتنفيذ عملياته، ومن ثم توسعت سلطاته ليسيطر عليها، بالتالي لن تجد جذور الوجود الداعشي فيها متين وقوي، مثلما تجده في العراق.
الدروس المستفادة
وصف “كريستوفر فيليبس” داعش في أحدث كتاب له بعنوان “معركة من أجل سوريا”، بمن يحاول تكوين دولة أجنبية غير مُعترف بها دوليًا، بينما أرّخ “تشارلز ليستر” كيف أصبحت سوريا “محور الجهاد بالنسبة للعالم”، في كتاب له بعنوان “الجهاد السوري”، وكيف تنازعت العديد من الجماعات المختلفة للسيطرة على هذه البُقعة من العالم، فلم تقتصر على داعش وحده.
فكانت ظهور كفاءة القوات التركية، الداعمة للمعارضة، ودورها المتنامي في التحكم في الأحداث على الأراضي السورية، درسًا مُستفادًا آخر من استرداد مدينة “دابق” السورية، فعلى ما يبدو أن نجاح عملية “درع الفرات” التركية، أدت بطبيعة الأمر إلى خلق مناطق آمنة في الأنحاء التي فرضت القوات التركية سيطرتها عليها، حيث شرح الرئيس التركي “رجب طيب إردوغان”، في بداية هذا الشهر، معلقًا على العمليات العسكرية التركية داخل سوريا، قائلا: “سيتم حل مشكلة الإرهاب واللاجئين تدريجيا، عند تأمين الأراضي السورية.”
وننتقل إلى مناقشة تعد أهم من مناقشة موقف مدينة “دابق”، حيث تدور هذه المناقشة بشأن مدى توقعات العديد من معارضي داعش لوضع حد لهذا الصراع، فهل يعتقدون أن تنكيس علم داعش الأسود في كل من “الموصل” و”الرقة”، إضافة إلى مقتل الخليفة “البغدادي” سيوفي بالغرض؟ ثم تظهر أسئلة أخرى تستفسر عن من سيحق له التحكم في المناطق التي يسيطر عليها داعش في سوريا والعراق في المستقبل، بعد تحريرها من سيطرتهم، لكن تبقى جذور المشكلة كما هي وبحاجة إلى أن تعرض على العالم، وفي نفس الوقت، هل يتطلع داعش للتحول مرة أخرى من نظم الخلافة، وفقًا للعديد من الحقائق على أرض الواقع، إلى حلول أكثر منها افتراضية.. وهل يتحول لينتشر أكثر دوليا، ويمثل خطورة أكبر من ذي قبل؟
دائما ما كان سهلا عليك أن تغير حقائق مبنية على أرض الواقع، من أن تعمل على قتل فكرة، وبينما يواجه داعش في الوقت الحالي أكبر تحديات واجهته منذ تكوينه، إلا أن استخدامه مصطلح “نهاية العالم” يُعتبر أداة فعالة لتجنيد عناصر إرهابية جديدة، فستستمر ولن تنضب أبدًا.
التقرير