أخيرا بدأت معركة الموصل، التي ينتظرها العالم أجمع، بوصفها المعركة ما قبل الأخيرة للخلاص من تنظيم الدولة، بانتظار المعركة الأخيرة في الرقة. وقد استطاعت الولايات المتحدة، في اللحظات الأخيرة، أن تنظم مجموعة متباينة من القوى، في إطار هدف واحد لا غير، استعادة الموصل، دون أن تقدم أي ضمانات بأن هذه القوى لن تنفرط في لحظة ما بعد تحقيق هذا الهدف، أي في لحظة ما بعد تنظيم الدولة، خاصة ان هذه القوى المجتمعه اليوم لها اهداف مختلفة ومتقاطعة، وليس بينها أي رؤية متفق عليها لترتيبات ما بعد تنظيم الدولة.
أمريكيا، ما زال هدف التواجد الأمريكي، في إطار التحالف الدولي الذي انتجته، وقادته الولايات المتحدة، هو العودة إلى وضع ما قبل 9 حزيران/ يونيو 2014، أو لحظة ما قبل سقوط الموصل بيد التنظيم؛ اي استعادة الهدوء الهش في العراق، في إطار شكل ديمقراطي خال من المحتوى الحقيقي للديمقراطية. ولتحقيق هذا الهدف اعتمد الأمريكيون خطة عسكرية أطلقنا عليها شخصيا خطة «نقلة الفرس»، أي اعتماد مبدأ حركة الفرس في الشطرنج! تقوم على طرد تنظيم الدولة من المدن، وليس هزيمته هزيمة نهائية! عبر الانتقال من مدينة إلى أخرى، دون ملاحقة عناصره التي تنسحب عادة باتجاه محيط تلك المدن.
لقد استندت الاستراتيجية الأمريكية في بداية إعلان تدخلها المباشر في العراق، في 9 تشرين الثاني/ أغسطس، على اعتماد الضربات الجوية من دون أي تدخل بري، مع محاولة بناء قوة محلية «سنية» في إطار ما أطلق عليه «الحرس الوطني»، تعمل بمشاركة الجيش العراقي على الأرض. ولكن سرعان ما عدلت هذه الاستراتيجية، بسبب العجز في إقناع الفاعل السياسي الشيعي المتشكك بأي قوة سنية مسلحة. من هنا اضطر الأمريكيون، بسبب انهيار القوات العسكرية العراقية، وسرعة تقدم تنظيم الدولة على الأرض، إلى تبني خطة مختلفة، لاقت هوى لدى الفاعل السياسي الشيعي المحتكر للقرار العسكري والأمني بالكامل، باستبدال القوة المحلية بالميليشيات، من دون أي اعتبار للنتائج التي يمكن ان تترتب على هذا الخيار.
في معركة الموصل، يواصل الأمريكيون خطتهم، مع متغير يتعلق بتوقيت المعركة. فمن الواضح ان إدارة أوباما اعتمدت توقيتا سياسيا ارتبط بتوقيتات الانتخابات الأمريكية، وليس توقيتا عسكريا يعتمد على طبيعة التحشيد للمعركة على الأرض! وهو تكرار للسيناريو الذي حكم عملية كتابة الدستور العراقي، الذي ارتبط، هو الآخر، بتوقيتات الانتخابات الأمريكية وليس الوقائع على الأرض، وما زال الجميع يحصد النتائج الكارثية لهذا التوقيت؛ فقد أعلنت الحكومة العراقية عن بداية «معركة الموصل» على الرغم من معطيات كثيرة تشير إلى هذا الاستعجال في التوقيت منها ان القوات العراقية ما تزال على بعد ما بين 45 و 60 كم في القاطعين الجنوبي الشرقي (في الكوير)، والجنوبي (في القيارة)! وان لواءين من قوات الفرقة 16 لم تصل سد الموصل إلا قبل بضعة أيام فقط، وأن ميليشيا الحشد الوطني، والتي تغير اسمها إلى حرس نينوى، التي دربتها القوات التركية، تم قبولها ضمن القوات المتحشدة لمعركة الموصل قبل يومين فقط من إطلاق المعركة! والأهم أن عدد القوات العسكرية العراقية، مع القوات المتجحفلة معها، غير كافية عمليا لمعركة كبيرة مثل معركة الموصل. ومن الواضح أن هذه الخطة، بنيت على أساس أن تنظيم الدولة لن يقاتل في الموصل، وأنه سينسحب من المدينة، في حال تمكن القوات المهاجمة من اختراق حائط الصد المشكل حول مدينة الموصل، كما حصل في معارك الرمادي والفلوجة وهيت.
مراجعة الخطة تكشف أيضا عن أن القوات المحتشدة تتوزع على قوسين، يمتد الأول من الطريق الرابط بين بغداد والموصل، باتجاه القيارة، ثم مخمور عبر نهر دجلة، وصولا إلى الكوير، صعودا باتجاه قضاء الحمدانية، وتسيطر على هذا القاطع قوات الجيش العراقي، ومكافحة الإرهاب، والشرطة الاتحادية، وميليشيا الحشد الشعبي. ثم قوس آخر يمتد من شرق قضاء الحمدانية، صعودا إلى شرق بعشيقة، ثم تل أسقف شمال الموصل، ثم وانة شمال شرق الموصل، وصولا إلى سنجار شرق الموصل. وتسيطر عليها قوات البيشمركه. ومع وجود لقوات حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، تحديدا في سنجار، ووجود محدود للقوات العراقية (لواءين من الفرقة 16) في سد الموصل. ومن ثم فإن هكذا توزيع يترك قوسا ثالثا يمتد عبر تلعفر وصولا إلى طريق بغداد الموصل، يمتد على مسافة تصل إلى أكثر من 100 كم خالية من أي وجود عسكري! وهذا القوس ينفتح على مناطق ما زالت خاضعة لسيطرة التنظيم جنوب غرب الموصل، وصولا إلى الحدود السورية التي تمتد مفتوحة لمسافة تزيد عن 140 كم! فضلا عن انها تنفتح على المناطق التي ما زلت تخضع لسيطرته في محافظات صلاح الدين والأنبار! وهو ما يوفر للتنظيم مساحات واسعة للحركة والمناورة في حال الانسحاب للتخلص من الضربات الجوية.
مراجعة الخطة تكشف أيضا عن أن هذه الخطة لم تلتفت مطلقا للجانب الإنساني، المتعلق بالمدنيين المحاصرين داخل المدينة، والذين يزيد عددهم عن 1.5 مليون مدني؛ فمنظمات الأمم المتحدة تحدثت عن إنشاء مخيمات محدودة، وعن خطط مستقبلية لأنشاء مخيمات! في ظل تخلي شبه مطلق للحكومة العراقية عن مسؤولياتها تجاه النازحين. إن مراجعة أقرب عملية نزوح واسعة، وهي التي حصلت في الفلوجة، عندما فر 86 شخصا من المدينة لحظة اشتداد المعركة، كشفت عن عجز كامل في التعاطي مع الأزمة! فكيف سيكون الوضع في حالة نزوح 12 ضعفا هذا العدد من مدينة الموصل؟
ففي مراجعة سريعة لطبيعة التعاطي الحكومي مع مسألة النازحين، تكشف الميزانية الاتحادية لعام 2016، وهي السنة التي حددها العبادي لهزيمة تنظيم الدولة، انه لم تخصص أية ميزانية للنازحين، وأنها كانت مشروطة بتخصيص موازنة للميليشيات. فقد تم اقتطاع 3٪ من رواتب ومخصصات موظفي الدولة والمتقاعدين! لتكون 40٪ منها للنازحين٫ مقابل 60٪ للميليشيات! ومناقلة 3٪ من مجموع المستلزمات الخدمية والسلعية وصيانة الموجودات والنفقات الرأسمالية لتوزع مناصفة بين النازحين والمليشيات! وهذا يعني عمليا أن تخصيصات النازحين خضعت لصفقة سياسية غير أخلاقية تماما، هذا فضلا عن انها كانت مبالغ بائسة بالنظر إلى حجم المأساة؛ إذ لم تصل إلى مبلغ مليار دولار لإغاثة أكثر من 3.2 مليون نازح، فضلا عن مليون نازح محتمل من الموصل! أي أن حصة النازح الواحد لن تزيد عن 20 دولارا في الشهر، هذا إذا افترضنا وصولها أصلا إلى النازح، في ظل الفساد، وسوء الإدارة!
لم تتضمن خطة معركة الموصل المستعجلة، الخطة ب! في حال إصرار تنظيم الدولة على البقاء في المدينة، والقتال بشراسة ومنع المدنيين من الخروج، كما حصل في نموذجي عين العرب في سوريا، وبيجي في العراق، عندما قاتل التنظيم إلى حد تدمير المدينتين بالكامل! مع وجود اختلاف جوهري، وهو أنه في كلا النموذجين، كنا امام مدن صغيرة، وخالية تماما من المدنيين، على عكس مدينة الموصل، الكبيرة، والمليئة بالمدنيين. خاصة إذا ما تم اعتماد القصف المكثف والعشوائي للمدينة! عندها لن يتمكن الفاعل الأمريكي من توزيع الأدوار التي اعتمدها في خطته، وسيكون للمنتصرين على الأرض الكلمة الفصل في تحديد ملامح ما بعد تنظيم الدولة، في الموصل!
يحيى الكبيسي
صحيفة القدس العربي