لا تقتصر لعبة الشطرنج في منطقة شرق المتوسط على العوامل الجيوسياسية وموارد الطاقة، بل تشمل العوامل القومية والمذهبية وصراعات النفوذ. في عباب ”البحر الهائج” في الشرق الأوسط، تتفاقم الحالة السورية الأكثر دراماتيكية ويصعب توقع الخروج من النفق قريبا. يستسهل البعض الكلام عن اقتطاع أجزاء لتتبع مشروع “ولاية الفقيه” أو “دولة الخلافة” ويكثر الحديث عن دولة أقليات في “سوريا صغرى ومفيدة” تمتد من السويداء إلى دمشق وحتى كسب مرورا بحمص واللاذقية. وهذا لا يلغي فرضيات “كردستان” و”علويتان” و”درزستان”، وكل هذه الاحتمالات التقسيمية يطغى عليها طابع المغامرة والتحدي وعدم الإلمام بالتاريخ والجغرافيا للمكونات المعنية ولمجمل الإقليم.
بالطبع، من الصعب أن تعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل مارس 2011، لكن يستحيل التسرع والخلط في الاستنتاج بين تكوّن مناطق نفوذ مؤقتة نتيجة مسارات التفكك والاهتراء، وبين تركيب دويلات أو دول جديدة بشكل قانوني قابلة للحياة من حيث الموارد الاقتصادية.
سيتطلب الأمر مخاضا يمكن أن يمتد من سوريا إلى ليبيا ويستغرق العديد من السنوات (من خمس سنوات إلى عقد من الزمن) وليس من الضروري أن يسفر عن تقسيم المقسم طبقا لاتفاقية سايكس-بيكو التي مضى عليها قرن من الزمن، بل ربما يجري التوافق على أنظمة فيدرالية مرنة تحفظ الكيانات القائمة، أو تتبلور دول فيدرالية أوسع تسقط معها حدود الكيانات الحالية وتعتمد المناطقية والجهوية كمعايير للتشكيل، بالإضافة إلى معايير تستند إلى حيز من التجانس الديني والإثني بين المكونات المختلفة.
إزاء تداعيات النزاع السوري متعدد الأوجه وعبر حرب داعش في العراق، بالإضافة إلى انهيار الوضع الفلسطيني وهشاشة أوضاع الأردن ولبنان، تعود نغمة سايكس-بيكو الجديدة
إذا لجأنا إلى مثل ملموس، اعتبر أكثر من مؤرخ أن فصل حلب عن الموصل كان قطعا لعمق سكاني-تجاري تاريخي. لكن بعد السنوات العجاف الحالية أصبح الشمال السوري له عمق اقتصادي في تركيا، وأصبحت دمشق ترتبط ببيروت، والجنوب بالأردن والرقة بالعراق. وهذا الواقع الاقتصادي الجديد المعطوف على تغيير سكاني قسري، سيلقي بظله على سيناريوهات التفتيت أو إعادة التوحيد.
من أجل الإحاطة بواقع انهيار الدولة السورية وتداعياته، لا بد من الإلمام ببعض الوقائع التاريخية المفيدة. قبل عام من قضاء الانتداب الفرنسي على حلم فيصل الهاشمي في المملكة العربية السورية (أول دولة سورية مستقلة بعد زوال الدولة العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى)، أرسلت واشنطن لجنة كينغ-كراين إلى منطقة الشرق الأوسط من أجل معرفة مطالب السكان حول أسلوب الحكم والحدود، وهي مهمة أتت في إطار سياسات وودرو ويلسون، الرئيس الأميركي آنذاك، وإيمانه بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ويتضح من قراءة خلاصات اللجنة التنبه إلى الإشكاليات التي تواجه الشرق المضطرب اليوم، لا سيما لجهة صعوبات بناء الدولة القومية وفقا للمعايير الغربية. ورد في الخلاصات حرفيا “أن مسلمي ومسيحيي الشام سيتعودون على العيش بتناغم لأن الوعي الاجتماعي الحديث يحث على ضرورة فهم ‘النصف الآخر’، وإقامة علاقات وطيدة “. لكن هذا الطرح “المتفائل” لم يمنع نفس اللجنة من التحذير من أن “وضع مجموعات إثنية ودينية متنوعة في دول كبيرة قد يؤدي إلى نتائج دموية”.
ويومها تجرأت اللجنة واقترحت قدرا كبيرا من الحكم الذاتي للبنان في إطار سوريا، وقدرا محدودا من الحكم الذاتي للأكراد. ولامست خلاصتها ما يشبه “النبوءة” لمعطيات المرحلة الراهنة وقد ورد “لا شك أن الحل الآلي للعلاقات المتشابكة والصعبة هو تقسيم المنطقة إلى قطع مستقلة صغيرة، ولكن التقسيم والفصل الشامل في الحقيقة يعزّزان الفروق ويزيدان من الخصومة” أي أن مسار التفكك الذي يقود إلى الطلاق والتقسيم يمكن أن يؤدي إلى حروب طويلة مع نتائج غير مضمونة على ضوء الصعود المدوّي للإرهاب والتطرف.
في فترة اتفاقية سايكس-بيكو ولجنة كينغ-كرين، لم تكن هناك حركات إسلامية راديكالية ترفض الدولة القومية من حيث المبدأ. وبعدها نشأت دول وطنية مستقلة تحولت غالبيتها إلى دكتاتوريات استبدادية أرجعت فشلها إلى نظرية المؤامرة والصراع مع إسرائيل. وما يهمّنا حاليا بالنسبة إلى وضع سوريا اقتباس استنتاج الثنائي كينغ-كرين “لا تنقسم المجموعات الإثنية والدينية المختلفة في المنطقة إلى وحدات متجانسة منفصلة عن بعضها، بل إن المنتمين إلى كل مجموعة لا يشتركون بالضرورة في رؤية موحدة لماهية الحكومة التي يريدونها”.
من سوريا والعراق رسمت حدود الشرق الأوسط القديم ومنهما ترسم ملامح الشرق الأوسط الجديد
وكما ينطبق هذا التوصيف على الأكثرية العربية السنية، ينطبق الأمر على المكونات المسماة أقليات.(…) في القرن الماضي سقطت مخطّطات التقسيم من خلال وقفة رموز المكونات الأقلية من سلطان باشا الأطرش إلى إبراهيم هنانو وصالح العلي بالتضامن والتكافل مع عبدالرحمن الشهبندر وحسن الخراط في دمشق وباقي رموز الأكثرية. وهذا الدرس التاريخي مهم جدا في أي مشروع لإعادة توحيد البلاد.
إبّان مرحلة مفصلية من تاريخ المشرق، في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، اعتبر غبريال بيو، المفوض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان آنذاك، أن “المسألة السورية غير قابلة للحل وفق منطق ديكارت العقلاني”. والآن يبرز الاستعصاء السوري والحريق العراقي بعد قرن على إبرام اتفاقية سايكس-بيكو التي رسمت حدود كيانات جديدة منبثقة من إرث السلطنة العثمانية.
“المسألة الشرقية” الجديدة
استخدمت «المسألة الشرقية» أول الأمر، بداية القرن التاسع عشر، في إشارة إلى الدول الواقعة في البلقان وأوروبا الشرقية والقوقاز. وأضاف كارل ماركس إلى المسألة الشرقية صفة «الأبدية»، غامزا من قناة تعقيدات الفسيفساء العرقية والإثنية والدينية، في هذا الفضاء البشري الملاصق لأوروبا وروسيا، والواقع ما بين آسيا وأفريقيا. لكن مع انهيار الإمبراطورية العثمانية أصبحت المسألة الشرقية تعني محاولة الدول الأوروبية الكبرى تقسيم السلطنة-الرجل المريض وتصفية أملاكه، ونسي العالم ما سبقها من قضايا في الشرق الواسع.
تعود المسألة الشرقية من جديد في السنوات الأخيرة عبر النزاع السوري متعدد الأوجه وعبر حرب داعش في العراق. إزاء تداعيات هذين النزاعين بالإضافة إلى انهيار الوضع الفلسطيني وهشاشة أوضاع الأردن ولبنان، تعود نغمة “سايكس-بيكو” الجديدة، أي القيام بتقسيم ما هو مقسّم أساسا.
وهذه المرة لا تجد فرنسا وبريطانيا نفسيهما في موقع اللاعبين من الدرجة الأولى كما حال اللاعبين الروسي والأميركي، بل إنهما تشهدان اندثار الرهانات على التركيبة القديمة ليس فقط بسبب تداعيات ما فعله خنجر أو مقص المستعمر ولعبة المصالح فحسب، بل بسبب فشل بناء الدول الوطنية القومية بعد الاستقلال وغياب إطارات الاندماج الإقليمي الملائمة، وتعاظم البعد الديني في السياسة واندلاع الفتنة السنية-الشيعية.
نشهد حاليا ترنح المشرق وإسقاط الحدود فيه وضرب دوله المركزية. في هذه الرقصة بين التاريخ والجغرافيا، تبرز كيانات مذهبية ومنظمات جهادية عابرة للحدود وناقضة بشكل حاسم لمفهوم الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة. وإذا كان تنظيم الدولة الإسلامية قد شكل ما يسميه الخلافة، فقد سبق لحزب الله أن تحول إلى ” قوة إقليمية” لأنه أهم دعامة عربية للمشروع الإمبراطوري الإيراني، وينطبق الأمر ولو بشكل آخر على جماعة الإخوان المسلمين. إنها مغامرات أو تجارب لا تعترف بالحدود وتضع الكيانات كلها قيد الدرس.
في خضم المسألة الشرقية الجديدة قام التحالف الدولي ضد داعش منذ صيف 2014، فتزايد الغموض وتزاحمت المصالح التي من بينها الدور البارز للأكراد في البلدين (لم نشهد إلا لحظة عابرة ودرامية من الاهتمام الغربي بالضحايا الإيزيديين، ولم يعد مصير مسيحيي الشرق ورقة جذب أو عبور للأوروبيين كما كان الأمر في الأيام الخوالي). ويصاب المراقب بالذهول حيال عدم قدرة تحالف دولي مؤلف من أربع وعشرين دولة على ضرب تنظيم داعش ولجمه. ومن الواضح أن هناك استخدامات متنوعة لهذه الظاهرة وكأن داعش يشبه شركة دولية-إقليمية وهناك مصالح تقف وراء السماح بتغوّله تحت غطاء من الانحراف الديني.
أمام زحمة المشاريع لم يكن هناك مشروع عربي ولم تنجح التحولات منذ 2011 في بلورة مشروع جديد، ولذا أصبحت بلاد الشام ومصر واليمن وليبيا مسارح للنزاعات والإرهاب
إننا أمام حرب إقليمية-عالمية لا نعلم تماما كيف ستنتهي: هل بتغيير الحدود أم بقيام أنظمة حكم وكيانات جديدة؟ ثم ما هو مصير المكونات الأقلية الدينية والإثنية؟ وأين يتقاطع أو يتناحر الشرق والغرب؟ وما هو الانعكاس على صورة الإسلام ووضع المسلمين في أوروبا على ضوء انخراط الآلاف منهم في ما يسمّى الجهاد العالمي؟ أليس كل ذلك من أوجه المسألة الشرقية الجديدة؟ فيما تستند المقاربة الروسية على التخوف من عدوى التشدد الإسلامي وانتشار الأممية الجهادية، يعود الكرملين إلى أطروحة حماية المسيحيين والأقليات في المشرق. أما التحالف العملي الأميركي والأوروبي مع إيران (خلافة ولي الفقيه) ضد تنظيم الدولة الإسلامية وخليفته أبي بكر البغدادي فيفسره باحث أميركي من منطلق تبسيطي يتصل بعدم تحمل قساوة قطع الرؤوس… لكن من يتذكر آية الله خلخالي وإعداماته الجماعية في بدايات مرحلة الخميني ومن يعود إلى مراحل سوداء في محاكم التفتيش في أوروبا والجرائم الكبرى المعاصرة من رواندا إلى البوسنة والعراق ونيجيريا وسوريا يفهم جيدا أن العنف على اختلاف درجاته يستخدمه قساة القلوب من تجار الدين أو المستبدين أو الدول المسماة ديمقراطية وهو ليس ماركة حصرية بالشرق والإسلام.
يقول البعض إن داعش وأخواته هم أبناء الفكر الديني الإقصائي والشمولية، لكنهم أيضا أبناء بيئة الاستبداد والتصحر الفكري وانحراف البعثيين. البعض كان يرى بن لادن حليفا في الجهاد الأفغاني ثم أصبح رمز القاعدة والعدو الأول للغرب. لكن البغدادي وأمثاله ممن ربطوا الخلافة المزعومة باستحواذ المسلمين واستعبادهم وإلغاء كل الآخرين، يمثلون خطرا داهما على المسلمين في المقام الأول وهم عقدة المسألة الشرقية الجديدة في حربهم المعلنة على الكيانات القائمة وعلى كل تنوع في الإسلام أو خارجه. وهذا المرض يزداد حدة في الصدام مع مشروع ولاية الفقيه في التنافس على زعامة وقيادة الأممية الإسلاموية. وتضطرب الأمور أكثر مع احتدام الصراع الإقليمي وعدم وجود حدّ أدنى من الوفاق الدولي ممّا يمد في عمر النزاعات ويترك الحبل على الغارب للتطرف والإرهاب.
كيف يمكن للمشرق الخروج من الجحيم الحالي بعد مئة عام على تسوية بين المنتصرين الأوروبيين بلورت كيانات صمدت حتى بدء لعبة أمم ومسألة شرقية جديدة. الحل بالطبع ليس في انقسام اعتباطي على أساس المذهب والقومية والإمعان في التفكك، بل في التفكير بمخرج بعيد عن المسارات الحالية التي تتحكم بها الطموحات الإقليمية والأسطورة الدينية.
بالرغم من المخاض العسير للمراحل الانتقالية والفوضى القاتلة، من الصعب على الدكتاتوريات أن تكون أنموذج المستقبل وإذا أخذنا لبنان مثالا فقد مرّ عليه الكثير من الأهوال وخرج في الإجمال سالما لناحية الفكرة ومبرر الوجود. لا مبالغة في القول اليوم إن الكيانات الحالية وتنوع مكوناتها هي تحت التهديد. لكن لا يمكن تصور سوريا أو العراق أو لبنان وفلسطين والأردن من دون التنوع وتفاعل المكونات.
مخاطر التركيز على البعد الديني
جرى تحضير المسرح جيدا لنشأة التطرف وتمدده إذ أن المختبر الأفغاني (منذ نهاية سبعينات القرن العشرين)، الذي أفرز تنظيم القاعدة بعد حرب الخليج الثانية، والحرس الثوري الإيراني (ابن ثورة الخميني نهاية سبعينات القرن الماضي)، الذي أسس حزب الله في لبنان وتنظيمات عراقية، كان ينفذ قرار تمدد الأذرع الإيرانية في الإقليم، بعد هذه الصناعة التي لم تكن ترجمة لنظريات فقهية عند السنّة أو الشيعة فحسب، بل أيضا نتاج إسهام أميركي-غربي مباشر أو غير مباشر في البدايات الأفغانية، أو خلاصة لترك الاحتقان المذهبي يتصاعد بعد حرب العراق في 2003 وانعكاساته على صعود التطرف عند الجانين.
لم يأت هذا الإقحام للإسلام والعامل الديني من فراغ، بل على الأرجح من قراءة استراتيجية أميركية حول ضرورة صناعة العدوّ الملائم لكي تستمر واشنطن طويلا في التحكم بالقرار العالمي. وهكذا بعد “العدو الأحمر” المهزوم لماذا لا يكون “الخطر الأخضر” هو الهاجس نظرا للموقع الجغرافي لعوالم الإسلام من الشرق الأوسط إلى الجمهوريات السوفييتية السابقة وامتلاكها لمصادر الطاقة وطرق البترول والغاز ولزخم ديموغرافي. ولذا ليس من المستبعد أن تكون حربا أفغانستان في 2001 والعراق في 2003، ليس فقط للرد على اعتداءات 11 سبتمبر بل لشنّ ما يسمى الحرب الكبرى ضد الإرهاب وصياغة العالم حسب مفاهيم ورغبات واشنطن انطلاقا من الانتصارات التي كانت تعوّل عليها.
خرج التطرف من القمقم لأنه منذ بدايات القرن الحادي والعشرين ارتسم مشهد إقليمي ملتبس في الشرق الأوسط وتصادمت المشاريع المتناقضة لإعادة تركيب المنطقة (أميركي وإيراني وتركي وإسرائيلي). أمام زحمة المشاريع لم يكن هناك مشروع عربي ولم تنجح التحولات منذ 2011 في بلورة مشروع جديد ولذا أصبحت بلاد الشام ومصر واليمن وليبيا مسارح للنزاعات والإرهاب.
أدّى تفاقم الوضع في العراق وسوريا إلى إغراق المنطقة بالمجاهدين من كلّ حدب وصوب، خرجت الأمور عن سيطرة المقررين في اللعبة الدموية ووصل التغوّل مع المشروع الإمبراطوري الإيراني وبروز توحش تنظيم الدولة الإسلامية إلى حده الأقصى. منذ صيف 2014، عادت واشنطن عسكريا إلى العراق تحت يافطة التحالف الدولي ضد الإرهاب، وأصبح داعش وأخواته هاجسا يؤرق صناع القرار العالمي عبر سعيه للامتداد في “قوس إرهابي من وزيرستان إلى خليج غينيا”، حسب تعبير وزير الدفاع الفرنسي إيف لودريان.
من خلال قرن الفشل الاستراتيجي العربي أي القرن العشرين، ومع البدايات العنيفة في هذا القرن، يبدو العالم العربي مسرحا أو ملعبا للنفوذ وليس فاعلا في تقرير مصيره
إذا سلمنا أن تنظيم الدولة الإسلامية يعد التتويج الدرامي لمسار الحركات الجهادية المتطرفة منذ تسعينات القرن العشرين إلى اليوم مع الأخذ بعين الاعتبار دور القوى الخارجية وأنظمة الاستبداد في صناعته، إلا أن الاستخدام هو الأهم لناحية الفعل السياسي. وأيّ مراقبة دقيقة للمشهدين الميدانيين في سوريا والعراق، تدل على أن داعش يخدم استراتيجية التمدد الإيراني بشكل مقصود أو غير مقصود، كما أن الحرب ضده تسمح لواشنطن بالاستمرار في قيادة شؤون وشجون اللعبة المستمرة فصولا.
جرى الكثير من الحديث عن حروب النفط والغاز والمياه، وتضاف إليها اليوم الحرب ضد الإرهاب وكلها أيضا وسائل مفترضة ضمن عدة شغل اللاعبين الإقليميين والدوليين في سعيهم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. لا يمكن إذن ضرب التطرف والإرهاب عبر الأساليب الكلاسيكية القديمة أو عبر صراعات النفوذ. بالطبع تتوجب العودة إلى الجذور وخوض مواجهات ثقافية وأيديولوجية وعمليات بناء تنموي وإيجاد حلول عادلة للمشاكل المزمنة. وفي موازاة ذلك من دون توافق وشراكات إقليمية ودولية سيستمر استخدام الإرهاب لغايات في نفس يعقوب وغير يعقوب.
سيناريوهات وخلاصات
بعد القرن العشرين وخيباته، بدأ العقد الثاني من القرن الحالي ليدشن زمن الحالات الثورية التي ترمز عند البعض إلى اليقظة، وعند البعض الآخر إلى حركة انعتاق وتحرر للخروج من حالة الجمود والانحطاط، وصنع واقع جديد.
تبدو الدروب شائكة لأن المسارات متنوعة ومعقدة تتجاذبها العوامل الداخلية والتأثيرات الخارجية:
* الجغرافيا السياسية والتنافس الاقتصادي في أكثر من مكان. لا يمكن إغفال أدوار قوى الحفاظ على الأمر الواقع والثورة المضادة وكذلك سعي قوى الماضي والغيبية إلى السيطرة على مجريات الحاضر ومنع بناء نموذج حضاري ديمقراطي عربي طال انتظاره.
* تتبدل الوقائع على رقعة الشرق الأوسط وجوارها تبعا لحراك ومناورات اللاعبين الأساسيين.
* تحافظ ”اللعبة الكبرى” الجديدة في القرن الحادي والعشرين على زخمها انطلاقا من الأراضي السورية ويبقى الموقع العربي هو المهدد في الأساس، أسير ضعف بنيوي وتفكك في وقت ارتسام تقاسم استراتيجي جديد يمكن أن يمر على حساب اللاعبين العرب.
* تؤكد نظريات الأمن الاستراتيجي المعاصرة أهمية الطاقة ليس من الناحية الاقتصادية فحسب بل كونها أيضا محركا للصراعات ومؤشرا على عناصر القوة لدول المنشأ أو دول الممر أو المصب. وعبر التاريخ كان النزاع على الحدود والثروات من المياه والمحروقات وغيرها من أبرز أسباب النزاعات. وبالنظر إلى ما يعصف بالمنطقة من اضطرابات هناك قراءة تعتبر أن الحروب المندلعة من المشرق إلى المغرب والساحل تهدف في ما تهدف إلى السيطرة على الموارد ومنها أسواق الغاز وحقوله.
* يشكل الغاز فعليا مادة الطاقة الرئيسية في القرن الحادي والعشرين، سواء من حيث بديل الطاقة المناسب للنفط، ولا سيما مع تراجع احتياطي النفط عالميا، أو من حيث الطاقة النظيفة، كونه أقل ضررا للبيئة، ولهذا، فإن السيطرة أو التحكم السياسي والاقتصادي بالمناطق الغنية بالغاز من حوض شرق المتوسط إلى الخليج وشمال أفريقيا وإيران، تعتبر من بواعث وتتمات الصراع الدولي والإقليمي. ونستنتج من دون تردد أن سلاح الغاز والطاقة يبقى من الأسلحة المؤثرة في رسم ملامح نظام إقليمي شرق أوسطي، كما في بلورة التوازنات بين الدول الكبرى والدول الصاعدة.
تواجه الحدود الدولية للعالم العربي نمطين من المشكلات على الأقل:
1- مشكلات الحدود الخارجية.
2- احتمالات التقسيم كما حصل مع السودان أو احتمالات البلقنة الداخلية من العراق إلى سوريا وليبيا واليمن وربما بلدان عربية أخرى. أضف إلى ذلك أن العالم العربي يتعرض لتهديد بحبس المياه عنه؛ إذ تنبع أنهاره الكبرى (كالنيل ودجلة والفرات) من أراض أجنبية، وترتبط الأوضاع الجيوبوليتيكية للحدود العربية بما يسمى “حروب المياه”، ولا يمكن التقليل من آثار حرب أسعار النفط ومن عامل ثروة الطاقة في مقاربة مصادر الخطر.
من خلال قرن الفشل الاستراتيجي العربي أي القرن العشرين، ومع البدايات العنيفة في هذا القرن، يبدو العالم العربي مسرحا أو ملعبا للنفوذ وليس فاعلا في تقرير مصيره.
وفي حال إعادة تركيب الإقليم بعد قرن على اتفاقية سايكس-بيكو، إذا كانت هناك من إعادة نظر في الكيانات إن في داخلها أو برمتها، لن يتوقف الأمر على الحدود وحضور المكونات أي لن تكون الجغرافيا السياسية والبشرية لوحدها في الحسبان، بل سيكون للموارد وخارطتها وتوزعها نصيب في رسم الخرائط العتيدة.
د.خطار أبو دياب
صحيفة العرب اللندنية