“خيار مستحيل” أمام المدنيين في الموصل

“خيار مستحيل” أمام المدنيين في الموصل

c4a92e8b7c1dc73b687657ca5f4bfb6bab7030ab_0

يهدد الهجوم الذي يشنه الجيش العراقي هذه الأيام لاستعادة مدينة الموصل الشمالية من “داعش” بالتسبب في أزمة إنسانية واسعة النطاق، وتنطوي على خطر إطلاق صراع طائفي؛ حيث يجد مئات الآلاف من المدنيين أنفسهم موزعين بين خيار البقاء في منطقة مليئة بالفخاخ، أو المخاطرة بمواجهة الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً، والتي ربما تعرقل طريقهم إلى بر الأمان في غرب المدينة.
تشكل حملة قوات الأمن العراقية لإخراج “داعش” من الموصل نقطة حاسمة في الحرب المستمرة منذ سنتين ضد “داعش”، والتي تخاض بدعم من القوة الجوية بقيادة الولايات المتحدة وفرق من قوات العمليات الخاصة الأميركية. ولكن، وبينما تجري المعركة جدياً الآن، فإن كل العيون تتركز على مصير السكان المدنيين، ومعظمهم من السُّنة، في ثاني أكبر مدينة في العراق، والذين عانوا منذ أكثر من عامين من الاحتلال الغاشم لمتشددي “داعش”.
وحتى قبل أن يعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي عن بدء العملية العسكرية يوم الاثنين في الأسبوع الماضي، تحدت الآلاف من العائلات على مدى الأشهر الماضية حقول الألغام وحاولت تفادي نقاط التفتيش التابعة لـ”داعش” في محاولة للهرب إلى الأراضي الكردية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من المدينة، تحسباً لهجوم الجيش العراقي.
يبذل كل من “داعش” والحكومة في بغداد على حد سواء محاولة يائسة للتأثير على المدنيين. وتتحدث التقارير الواردة من المدينة عن إحاطة متطرفي “داعش” بالمدنيين لاستخدامهم كدروع بشرية، وقيامهم بقتل أولئك الذين يشتبهون بأنهم يتواصلون مع العالم الخارجي أو يحاولون المغادرة. وفي الوقت نفسه، قامت قاذفات “بي-52” الأميركية بإسقاط منشورات فوق الموصل لأيام عدة، والتي تحذر السكان وتحثهم على البقاء حيث هم وفي داخل البيوت عندما يدخل الجيش العراقي المدينة، وأن يبتعدوا عن مواقع “داعش” المعروفة.
كما حذر مسؤولو الأمم المتحدة من أن ما يصل إلى 1.5 مليون شخص في الموصل سيكونون تحت خطر التعرض للاستهداف، واحتمال أن يصبحوا عالقين في تقاطع النيران، أو يتم طردهم بالقوة أو استخدامهم كدروع بشرية أثناء القتال.
يقول ألون مكدونالد، المتحدث باسم مجموعة الإغاثة “أنقذوا الأطفال” إن اللاجئين “يواجهون خياراً مستحيلاً؛ إذا حاولوا الهرب من المدينة، فهناك القناصة، وهناك الألغام الأرضية. والأمر كله خطير للغاية. وإذا ظلوا في المدينة، فإنهم يخاطرون بالوقوع في تقاطع النيران والتعرض للقصف”.
تسارعت الحملة العسكرية لاستعادة الموصل وكسبت الزخم يوم الخميس الماضي، عندما شنت القوات الخاصة العراقية وقوات البشمرغة الكردية عمليات على جبهة جديدة في شمال وشرق المدينة، مندفعة أميالا عدة إلى الداخل من أطرافها. ومثلت هذه العلمية المشتركة أقرب تنسيق يحدث بين بغداد والقوات الكردية حتى الآن.
حتى بينما ينتشر القتال، ما يزال بعض المدنيين في الموصل والقرى المحيطة يخرجون إلى الطرق -على الرغم من المخاطر المتعددة. ومنذ يوم الاثنين في الأسبوع الماضي، فر أكثر من 5.500 شخص من القتال، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة. وفي مخيم ديبكة للاجئين بالقرب من مخمور في شمال العراق، يكتظ المكان بأكثر من 27.000 نازح عراقي مسبقاً، فيما وصل أكثر من 600 آخرين يوم الأربعاء. كما فر خلال الأيام القليلة الماضية آلاف عدة آخرون إلى شمال شرق سورية الذي مزقته الحرب.
في مخيم ديبكة للاجئين، تؤوي المدنيين صفوف تبدو بلا نهاية من الخيام والهياكل الجاهزة، لكن معظم القادمين الجدد ما يزالون يقيمون في ما كان ذات مرة مدرسة المخيم. وتنام العائلات على الحصير في الردهة، تحيط بهم القمامة. ويلتف صف طويل من الناس الذين ينتظرون الطعام حول الفناء.
يقول مدير المخيم، أحمد عبده، لمجلة “فورين بوليسي”: “لقد وصلنا إلى أقصى حدود قدرتنا، ونحن نتوقع قدوم المزيد والمزيد من الناس إلى هنا”.
وكانت أكثر من 150 عائلة تصل إلى المخيم كل يوم. وتقوم جماعات الإغاثة ببناء مخيم جديد في الجوار، لكنه لن يستوعب أكثر من بضعة آلاف قليلة أخرى من اللاجئين.
وصلت راضية علي إلى مخيم ديبكة صباح الأربعاء بعد أن قطعت الرحلة الليلية الخطرة مع أبنائها الأربعة. وكانت قد تسللت بعد غروب الشمس مباشرة في الليلة السابقة خارجة من قريتها، حلاوة، وتبعت مجموعة من الهاربين الآخرين لسبع ساعات عبر التلال المظلمة.
وتقول علي: “عندما رأينا سيارات “داعش”، اختبأنا. كانت هناك ألغام أرضية على الطريق”.
في ثوب بسيط أسود، جلست راضية علي على الأرضية المبللة، وهي تهز ابنتها الرضيعة. وتشبث طفلاها الآخران بركبتيها. وقالت إن قوات الأمن الكردية أخذت ابنها البالغ من العمر 15 عاماً لاستجوابه؛ ويجري التحقيق مع الرجال كافة الذين يصلون إلى الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد بحثاً عن روابط محتملة أو تعاون مع “داعش”.
استقرت حاجيات الأسرة القليلة التي استطاعوا جلبها معهم، ومعظمها ملابس الأطفال، بجوار راضية في كيسين من البلاستيك. لقد أصبح هذا بيتهم الآن.
والسيدة علي وأطفالها من بين 3.3 ملايين شخص آخرين من النازحين داخلياً في العراق، فضلاً عن عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين. وقد سعى أكثر من مليون شخص إلى اللجوء في المناطق الكردية الأكثر استقراراً في شمال العراق، متسببين في إجهاد الحكومة الإقليمية الكردية -التي تعاني من ضائقة مالية بسبب انخفاض أسعار النفط والصراع المالي مع بغداد- كما تسببوا في إرباك المنظمات الإنسانية.
لكن اللاجئين الذين يبحثون عن مكان آخر ليهربوا إليه ربما يواجهون خطراً جديداً؛ حيث تخطط بغداد لإرسال ميليشياتها الشيعية المخيفة المدعومة من إيران إلى غرب الموصل، لقطع الطريق على مقاتلي “داعش” الفارين الساعين إلى الملاذ في سورية، وللاستيلاء على مدينة تلعفر التي يسيطر عليها التنظيم. لكن هذا النشر للميليشيات ربما يضع عقبة أخرى، والتي قد تكون مميتة، في طريق اللاجئين السنة الذين يسعون إلى الهرب من القتال في جنوب وشرق المدينة، والذين ينتابهم الفزع من سمعة الميليشيات الشيعية وإساءة معاملتها للمدنيين السُنة.
وتُعرف هذه الميلشيات، التي يبلغ عددها نحو 20.000 مقاتل، جماعياً باسم “وحدات الحشد الشعبي”. ولديها تاريخ موثّق جيداً من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ وخلال القتال لاستعادة الفلوجة هذا العام، اعتقلت هذه الميليشيات وقتلت العشرات من الرجال السنة الهاربين من القتال. وقادت الانتقادات الدولية الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة في بغداد إلى الوعد بعدم دخول هذه الميليشيات مدينة الموصل ذات الأغلبية السُنية.
حتى كتابة هذا التقرير، بقيت ميليشيات الحشد الشعبي -ومستشاروها من قوات قوة القدس الإيرانية- خارج القتال حول الموصل. لكن قيادتها قالت يوم الثلاثاء في الأسبوع الماضي على “فيسبوك” إنها تخطط لعمليتين: “الأولى في تلعفر، والثانية لدعم القوات المتجهة نحو وسط الموصل”.
في حديث إلى الصحفيين في وزارة الدفاع يوم الأربعاء، قال اللواء غاري فوليسكي، قائد القوات البرية الأميركية في العراق، إنه لن يكون هناك أي مستشارين أميركيين على الأرض أو ضربات جوية لدعم الميليشيات التي ليست جزءاً من الحكومة العراقية والتي “تتكون من مجموعات مختلفة، بعضها معروفة بأنها منظمات إرهابية”.
لكن تلك الميليشيات تستعد لوضع نفسها مباشرة في طريق الآلاف من المدنيين المتجهين إلى مخيم الهول للاجئين في شمال شرق سورية. وقد وصل نحو 5.000 شخص مسبقاً إلى المخيم قادمين من منطقة الموصل بعد الارتحال عبر الأراضي التي يسيطر عليها “داعش” على مدى الأيام العشرة الماضية، مع 1.000 شخص آخرين على الأقل ينتظرون عبر الحدود، وفقاً لمنظمة “أنقذوا الأطفال”. وحذرت الأمم المتحدة من أن ما يصل إلى 100.000 شخص قد يصلون إلى سورية قادمين من محيط الموصل.
ويصف العاملون في منظمات الإغاثة ممن زاروا مخيم الهول وضعاً مزرياً؛ حيث تضطر العائلات إلى العيش وسط أكوام القمامة والمخلفات البشرية، مما يزيد من مخاطر تفشي الأمراض. وهناك ما لا يزيد على 16 مرحاضاً عاملاً يتشارك استخدامها كل الـ9.000 شخص المقيمين في المخيم، وكلهم هاربون من القتال في سورية والعراق.
حاولت الولايات المتحدة التحضير لما توقعت أن يكون سيلاً من اللاجئين. وفي الشهر الماضي، قالت واشنطن إنها ستقدم أكثر من 181 مليون دولار من المساعدات الإضافية لجماعات الإغاثة والسلطات العراقية، تحسباً للعملية العسكرية المخطط لها في الموصل.
وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، والذي يساعد في الإشراف على الجهود الإنسانية: “جزء مما يجعل هذه الاستجابة تحدياً كبيراً هو أن (الموصل) مجتمع معزول بشكل كبير. إننا نعرف القليل جداً عن الظروف في المدينة”.
كان من الصعب بما يكفي على وكالات الإغاثة التخطيط للتعامل مع استعادة الفلوجة في تموز (يونيو) الماضي، عندما كانت “تعرِف أن 80.000 شخص سوف ينزحون، وتعرف إلى أين سيذهبون”، كما قال المسؤول الذي تحدث إلى هذه المجلة شريطة عدم ذكر اسمه.
لكن وكالات الإغاثة الدولية ليست متأكدة من عدد الناس الذين ما يزالون يعيشون في الموصل، وكم منهم سيقررون الهرب، وفي أي ظروف سينتقلون، كما قال المسؤول.
في مخيم ديبكة، قالت راضية علي إنه لم يكن خطر الضربات الجوية والمعركة التي تلوح في الأفق بين “داعش” والقوات العراقية، هي التي دفعتها إلى المخاطرة وتحدي التعرض للضرب والقناصة والألغام الأرضية لتفر من قريتها.
وتقول راضية، وهي تهدهد ابنتها ناقصة الوزن بوضوح بعمر 5 أشهر: “ليس لدي حليب لإطعامها. لم يكن لدي ما يكفي من الطعام، ولذلك لا أنتج الحليب لها”.
وفي الجوار، حملت امرأة أخرى ابنتها الرضيعة هي الأخرى على ذراعها النحيلة، وقالت الأم: “لم تأكل منذ أربعة أيام”.

باول ماكليري ودان دي لوس

صحيفة الغد