أثار تصويت مصر لمصلحة مشروعي القرارين الفرنسي والروسي في جلسة مجلس الأمن التي ناقشت تطورات الوضع في حلب، ردود أفعال حادة. فما أن انتهت الجلسة حتى كان السفير السعودي في الأمم المتحدة عبدالله المعلمي يتحدث إلى وسائل الإعلام، فاعتبر التصويت المصري «مؤلماً»، وقارن بينه وبين موقف كل من ماليزيا والسنغال الذي اعتبره «أقرب إلى الموقف العربي». وأبرزت وسائل إعلام محسوبة على السعودية ذلك الاستياء، وراح الإعلام المصري يرد على ذلك، وافتقدت الحملات المتبادلة قواعد المهنية، ناهيك عن الالتزام بأبسط المعايير الأخلاقية.
لم يكن التصويت المصري، في تقديري، سبب اندلاع الأزمة وإنما كان كاشفاً عن وجودها فقط، ولذا تبدو الحاجة ماسة للتعرف إلى حقيقة أسبابها وبحث أنسب الوسائل لمعالجتها، وإلا خرجت عن نطاق السيطرة. وعلى رغم قناعتي بأن السياسات التي ينتهجها البلدان لا تزال دون مستوى التحديات التي يواجهانها على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، إلا أنني كنت وما زلت مقتنعاً بضرورة وحتمية إقامة علاقة استراتيجية بين البلدين (راجع على سبيل المثال مقالي المنشور هنا بتاريخ 30/3/2016).
أود التذكير هنا بما سبق أن أشرت إليه من وجود نهجين مختلفين حول النموذج الأمثل لبناء علاقة استراتيجية بين مصر والسعودية: النهج الأول: ثنائي التوجه، وينطلق في رؤيته من حقيقة الاختلاف القائم بين طبيعة النظام الحاكم في كل من مصر والسعودية، على رغم عمق الروابط والمصالح المشتركة بين الشعبين. لذا يعتقد أنصار هذا النهج أن الصيغة الأنسب لعلاقة مثمرة بين البلدين يجب أن تقوم على أساس رؤية كل نظام لاحتياجاته من الطرف الآخر، وأن يستند تحديد هذه الاحتياجات إلى حسابات دقيقة تقوم على المقايضة وتبادل المنافع والمعاملة بالمثل. ويبدو أن هذا هو النهج المعتمد حالياً لإدارة العلاقة بين البلدين. ومع ذلك فإن وضعه موضع التطبيق لا يتطلب فقط معرفة كل طرف لاحتياجاته من الطرف الآخر بدقة ولكن أيضاً بما يستطيع الطرف الآخر أن يقدمه والعثور على صيغة تحقق «التوازن» بين ما يقدمه وما يحصل عليه كل طرف، وتلك هي الحلقة المفقودة في النهج المعتمد حالياً، نظرياً على الأقل.
النهج الثاني: قومي التوجه، وينطلق في رؤيته من حقيقة أن مصر والسعودية تشكلان معاً العمود الفقري لنظام عربي لا يستطيع أي منهما أن يحيا إلا في ظله. ولأنه نظام مأزوم حالياً ويبدو على وشك الانهيار، فقد أصبحت هناك حاجة ماسة إلى رافعة لا يقدر على توفيرها سوى تحالف استراتيجي حقيقي بين البلدين. لذا يعتقد أنصار هذا النهج أن الصيغة الأنسب لعلاقة مثمرة بين البلدين يتعين أن تستجيب لمتطلبات الأمن القومي العربي ككل، ولما يستطيع كل طرف أن يسهم به لتوفير تلك المتطلبات. وقد جرت إبان الحقبة الناصرية محاولة لتطبيق هذا النهج، من طرف واحد، لكن الحاجة أصبحت اليوم ماسة لإحيائه وتجديده كي يصبح قابلاً للاعتماد والقيادة من الطرفين معاً. ولوضع هذه الصيغة المنقحة والمأمولة موضع التطبيق في المرحلة الراهنة يتعين على مصر والسعودية أن يدخلا في حوار عميق للتوصل إلى اتفاق على تعريف محدد لمفهوم الأمن القومي، ولطبيعة الأخطار والتحديات التي تواجهه، وللوسائل والآليات الكفيلة بمواجهتها. وتلك هي الحلقة المفقودة في النهج المأمول.
يدرك كل دارس متعمق حجم الصعوبات التي تعترض طريق وضع نموذج عقلاني لإدارة العلاقات العربية- العربية، سواء على المستوى الثنائي أو الجماعي. أسباب هذه الصعوبات كثيرة، ربما كان أهمها غياب المؤسسية، والتناقض بين السياسات المعلنة والسياسات الحقيقية التي ترسم خلف أبواب مغلقة. ففي غياب المؤسسية أصبح لدى كل نظام عربي ميل غريزي للتصرف في العلن بطريقة تختلف تماماً عن تصرفاته خلف الأبواب المغلقة. ففي العلن يقدم كل نظام عربي سلوكه باعتباره الأكثر اتساقاً مع المصالح العربية العليا وحرصاً عليها، لكنه يتصرف في الخفاء بأنانية، ويمارس كل أنواع الابتزاز.
الأخطر من ذلك أن النظم التي تتنافس لقيادة النظام العربي نادراً ما تحترم مؤسسات العمل العربي المشترك أو تسعى لاتخاذ قراراتها عبر ما قد تتيحه من آليات، وغالباً ما تضع النظام العربي أمام أمر واقع حين تقوم باتخاذ قراراتها وفقاً لحسابات ذاتية أو قطرية بحتة، ثم تحاول تسويقها بعد ذلك باعتبارها قرارات قومية تستهدف مصالح العرب جميعاً. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى: فأنور السادات لم يستشر أحداً حين قرر الذهاب إلى القدس، وصدام حسين لم يستشر أحداً حين قرر شن الحرب على إيران… الخ.
من الطبيعي أن تتباين رؤية كل دولة عربية لمصادر تهديد أمنها الوطني بسبب تباين الوضع الجيوسياسي لكل منها وما يفرضه من تباين في تحالفاتها الخارجية، إقليمية كانت أم دولية. وتأسيساً على هذه الحقيقة، من الطبيعي أن تختلف طريقة إدراك السعودية للمخاطر التي قد تنجم عن تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة عن طريقة إدراك مصر للأخطار ذاتها، وأن تختلف طريقة إدراك مصر للأخطار التي قد تنجم عن بناء إثيوبيا لسد النهضة أو عن تحول ليبيا إلى دولة فاشلة، عن طريقة إدراك السعودية للأخطار نفسها. وحين يدرك العرب جميعاً أن النظام العربي بدأ مرحلة الانهيار الفعلي وأن انهياره سيؤدي إلى انهيار كل الدول العربية التي لن يستطيع أي منها أن ينجو بمفرده، وحين تدرك كل من مصر والسعودية أنهما يشكلان معاً العمود الفقري للنظام العربي كله وأن إقامة علاقة استراتيجية صلبة بينهما هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة بإنقاذ هذا النظام من الانهيار، تصبح مهمة بناء علاقة استراتيجية بين مصر والسعودية قضية حياة أو موت، ليس فقط بالنسبة إلى الدولتين المعنيتين وإنما بالنسبة إلى الشعوب العربية قاطبة.
أدرك أن الكارهين للنظام العربي والساعين لوراثته، وهم كثر، سيبذلون كل ما في وسعهم للترويج لمقولة أنه يقوم على فكرة وهمية لا أساس لها ويبدو كسراب خادع لا يستحق تبديد الوقت والجهد في الجري وراءه. كما أدرك أن هناك محاولات لقيام تحالف سعودي – تركي يكون خياراً أكثر مدعاة للثقة. كما أن هناك محاولات لقيام تحالف مصري – إيراني على أساس إقناع مصر بأن التحالف مع إيران يمكن أن يشكل بديلاً أفضل، وربما يكون الوحيد القادر استراتيجياً على وضع حد لمشكلات مصر المزمنة من خلال اقتسام النفوذ مع إيران في الخليج العربي.
وفي تقديري أن السير على هذا الدرب الوعر لن يؤدي إلا إلى التهلكة. رب ضارة نافعة، كما يقولون، وأظن أن بوسع كل من مصر والسعودية، إن أرادا، تحويل الأزمة الراهنة إلى فرصة لحوار استراتيجي يسمح للبلدين بالتوافق على رؤية مشتركة لإنقاذ النظام العربي وإعادة بنائه على أسس جديدة. لكن ذلك يتطلب منهما تغييراً جذرياً في سياستهما الراهنة.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية