لم تحسم الإدارة الأميركية خياراتها تجاه القضية السورية، والتي لا زالت تتراوح بين تدخّل دبلوماسي والحؤول دون امتلاك المعارضة أسلحة فعالة ودعوة الأطراف المتصارعة إلى تقديم تنازلات بالجملة، وصولاً إلى احتمال القيام بتدخّل عسكري محدود يسمح للصراع بالاستمرار، ولا يتيح لأي طرف تحقيق الغلبة على الآخر، لا النظام ولا المعارضة، وذلك بدعم المعارضة بأسلحة دفاعية غير قادرة على صناعة نهاية حاسمة لأي معركة.
بين كل من هذه الخيارات تأتي عملية «لوزان ١» إلى الحضور الدولي، وكأنها عملية إنعاش صعبة لميّت اسمه هدنة حلب، أو الاتفاق الأميركي- الروسي الذي ولد معوقاً أو غير قادر على النمو. يعود الحديث عن لوزان جديدة إذاً على رغم أن «لوزان ١»، التي تم تدشينها في منتصف هذا الشهر بحضور الولايات المتحدة وروسيا وكل من إيران وتركيا والسعودية وقطر والأردن والعراق ومصر، لم تأخذ إعلامياً أي صدى حقيقي لما تم داخل أروقتها، إذ لم يصدر إعلان عن مجريات نقاشاتها التي توحي بأنها كانت أكثر من صريحة بين الأطراف الفاعلة على أرض سورية. فليس مصادفة أن الأطراف المشاركة هي الأطراف المنخرطة مباشرة في الصراع على الأرض (باستثناء مصر والأردن)، طبعا عبر أدواتها أو استطالاتها المحلية، من طرفي النظام أو المعارضة، مع ملاحظتنا تغييب الدول الأوروبية عن هذا الاجتماع، المتحمسة للحسم السياسي، الأمر الذي يؤكد الأهمية العملية لهذا الاجتماع وطابعها الميداني.
ما الذي طرحته «لوزان 1» (15/10) أو ما الذي يفترض أن تحسمه كي يعود الحديث من جديد عن «لوزان ٢»؟
لعل هذا هو السؤال الذي تدارسته الأطراف جميعها خلال الفترة الماضية ويفترض أن تقدم الإجابة عنه في الجلسة المزعم عقدها قريباً حسب التسريبات الصحافية، والتي تفيد بأن الأمر لا يتعلق هذه المرة فقط بهدنة تبدأ من حلب، ولكن أيضاً بمنفذ سياسي يقود إلى إحياء مفاوضات قد لا تتجاهل مصير الأسد، وهو عقدة الاستعصاء في الصراع السوري، بحسب التسريبات الموثوقة، وذلك من خلال تظهير، بدل تجهيل هذا المصير باستفتاء شعبي، يتاح فيه لكل السوريين، أينما كانوا، التعبير عن رأيهم، ولعلّ هذه المسألة تحديداً هي التي تقف وراء تغيب مجريات النقاش التي جرت في «لوزان 1» عن وسائل الإعلام، بحيث لم يصدر أي بيان عما توافقت عليه الأطراف المجتمعة أو ما لم تتوافق عليه.
أيضاً، كان الحراك الديبلوماسي اللاحق لاجتماع «لوزان١»، والطلب المتلاحق من كل الأطراف سواء التي اجتمعت أو التي غُيبّت، يوحي بأن عودة الاتفاق الأميركي الروسي (9/9) بات ممكناً، بل وفي طريقه للتنفيذ، وفي مقدمة ذلك يأتي فصل قوات المعارضة المسلحة عن قوات جبهة «فتح الشام» (النصرة). الدليل على ذلك أن بعض الدول المتّهمة بدعمها غير المعلن لـ «جبهة النصرة» صرحت علناً بضرورة خروج هذه الجبهة من حلب، وإعادة تصدير تصنيفها كمنظمة إرهابية وخفوت الأضواء عن حراكها العسكري داخل سورية، بعد أن حظي بتغطية إعلامية أوحت وكأن « النصرة» هي صاحبة الباع الكبير في عملية الحسم العسكري في مواجهة النظام، ليتبين لاحقاً أن عدد عناصرها في حلب المستهدفة لا يتجاوز مئتي مقاتل على الأرض.
كل ما تقدم أيضاً يطرح تساؤلاً ملحاً بشأن ما إذا كانت الدول الفاعلة في الصراع السوري وجدت أخيراً طريقاً إلى تفاهمات تفضي إلى وضع حد لهذا الصراع؟ وأنه إذا كانت وصلت إلى ذلك فما الذي يؤخّر تنفيذها له ووقف هذا العدوان المستمر من النظام وحلفائه على حلب؟ وعلى ضوء ذلك فهل نحن بانتظار انتظام خطوط الفصل بين الطرفين حسب خريطة محددة لا تسمح للمعارضة وبالتالي لتركيا بكسب كل شرق حلب، كما لا تسمح بتوغل النظام على كامل حلب غربها وشرقها؟
على ذلك يبدو أن الحديث عن «لوزان ٢» يتضمن شبه إجابة عن هذه التساؤلات لا سيما أن الدعوة ستقتصر على الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا والسعودية وقطر، أي القوى التي تملك أدواتها العسكرية ومساحاتها الجغرافية على الأرض كما تملك جهاز التحكم السياسي والدعم المالي أيضاً لمختلف الأطراف.
الآن، وبعيداً عن النظام والمعارضة، تحصل التوافقات في الملف السوري، لكن السوريين هم من يدفع ثمن الاختلافات في الرأي والخطط المؤجلة ومحددات خطوط الفصل المطلوبة بين الطرفين المتقاتلين، وإلى أن تستقر الأطراف الفاعلة، سيما الولايات المتحدة وروسيا، على الصورة النهائية للاتفاق المأمول ضماناً لمصالحها. ومعنى ذلك استمرار النزيف السوري ومواصلة تقديم التنازلات من ثورة تطالب بالحرية والكرامة وإسقاط نظام الاستبداد وإقامة دولة ديموقراطية تعددية، تحفظ حقوق المواطنين والجماعات القومية والإثنية، إلى تفاهمات محدودة على حكومة تشاركية تجمع بين النظام والمعارضة، يفوّضها رئيس النظام بصلاحيات تنفيذية لا ترقى إلى صلاحيات سيادية، ورغم هذه التنازلات لا يزال النظام حتى الآن يناقش في حقه برفضها بناء على وهم انتصاراته العسكرية التي تقودها روسيا في السماء وإيران على الأرض.
اجتماعات «لوزان ٢» إذا تم تسهيل انعقادها، بأطرافها روسيا وإيران من جهة والولايات المتحدة مع السعودية وقطر من جهة ثانية، وتركيا الطرف الثالث في المعادلة التي تتقاطع مع روسيا بعلاقات متجددة ومصالح كبرى، ومع الولايات المتحدة بتحالف دولي يصعب الانسحاب منه، وإزاء سورية بعلاقة متداخلة يصعب الفصل بينها مع فصائل المعارضة المسلحة والسياسية ويصعب حل مشكلاتها مع قوات سورية الديموقراطية، «لوزان ٢» هذه ستأتي لتكون المرجعية الدولية للقضية السورية بدلاً من «جنيف ١» وكل ما تم التوافق عليه في «جنيف ٢» و «جنيف ٣».
إذاً نحن في «لوزان 2» سنكون، على الأرجح، في مواجهة استحقاقين: الأول يتعلق بتثبيت خطوط الاشتباك بين المتقاتلين. والثاني يتعلق بتحديد مصير الأسد في العملية الانتقالية، وهذا سيتوقف على نتائج التجاذبات الأميركية- الروسية.
سميرة المسالمة
صحيفة الحياة اللندنية