في هذا التحليل لمعهد لوي، يستكشف توماس رايت كيفيات تغيُّر السياسة الخارجية للولايات المتحدة في حال كسب دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويقول رايت إن رئاسة ترامب يمكن أن تشهد قيام الولايات المتحدة بتقويض النظام الدولي الليبرالي الذي أسهمت في إنشائه. في حين ستكون كلينتون، على النقيض من ذلك، رئيساً أممياً أكثر تقليدية.
* * *
أُممية هيلاري كلينتون
كان مسار هيلاري كلينتون للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي أصعب بكثير مما كان متوقعاً. وكشف ظهور بيرني ساندرز القوي عن ميلٍ إلى اليسار في صفوف الحزب الديمقراطي، وخاصة بين الشباب. وعلى الرغم من أن نظرة ساندرز إلى العالم تختلف عن ترامب في المسائل الأساسية، فقد ضرب كل من المرشحَين على نفس وتر القلق من العولمة ومكانة أميركا في العالم. ووعد بيرني ساندرز بالتركيز على الداخل وعمَل الأقل في الخارج. وتجاهل بقية العالم إلى حد كبير، في تناقض واضح مع حملة باراك أوباما في العام 2008، التي عرضت رؤية جديدة للقيادة الدولية. وبدلاً من ذلك، سوف يطلب ساندرز من الآخرين تحمل جزء أكبر من العبء. وفي نهاية حملته الانتخابية، أفصح ساندرز عن سياسة خارجية كانت على يسار الرئيس أوباما، لأنها دعت إلى التقشف في الالتزامات العسكرية في الخارج والانسحاب من الاقتصاد العالمي.
ضمن فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي أن يكون نموذج الأممية التقليدية رهناً لصناديق الاقتراع في تشرين الثاني (نوفمبر)، وعرض احتمال الاستمرارية في نهج السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومن الواضح أن الأشياء التي توحد الرئيس أوباما وهيلاري كلينتون في السياسة الخارجية تظل أكثر أهمية بكثير من الأمور التي تفرق بينهما. فهما يؤمنان كلاهما بنظام دولي ليبرالي تقوده الولايات المتحدة. وكلاهما ملتزمان بالتعددية. وكلاهما يريان السلطة الوطنية على أنها تشمل القوة المدنية والقوة العسكرية. وكلاهما يهتمان بالتحديات العابرة للحدود، مثل تغير المناخ والأمراض الوبائية. وكلاهما أكثر اهتماماً بالتحول الوطني من التحول الدولي. ومع ذلك، فإن كل رئيس يظل فريداً من نوعه ولديه أسلوبه الخاص. وسوف تكون كلينتون كذلك أيضاً.
من الصعب التحدث بيقين عما قد تفعله كلينتون بشكل مختلف عن أوباما بمجرد النظر في سجلها كوزيرة للخارجية، أو في بيانات حملتها الانتخابية. ولدى كلينتون الآن حافز سياسي لتغطية الخلافات مع إدارة أوباما. ويترك هذا الوضع نوعاً من الأحجية: سوف يعرض الانكباب على تعقب التفاصيل الدقيقة في كلامها خطر المبالغة في تقدير أهمية البيانات الانتخابية الثانوية نسبياً. وهناك نهجٌ أفضل، هو النظر فيما يقوله خبراء السياسة الخارجية الديمقراطيون الذين ربما يخدمون -أو يؤثرون- في إدارة كلينتون، عن سجل أوباما وما الذي ينبغي عمله تالياً.
سوف يكون هناك الكثير من الاستمرارية بين إدارة أوباما وإدارة كلينتون، لا سيما عند المقارنة بترامب. ومع ذلك، من المرجح أن يحدث تحول دقيق، ولكنه مهم، في التركيز على كيفية تفكير الولايات المتحدة في النظام الدولي. كان الرئيس أوباما يقلق إزاء التهديدات والتحديات العالمية، مثل مكافحة الإرهاب، وتغير المناخ، وعدم الانتشار النووي، أكثر مما يقلق بشأن التحديات الإقليمية. وعلى المستوى الإقليمي، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا، فضل أوباما التركيز على الفرص الاقتصادية والدبلوماسية، وسعى إلى تمرير عبء توفير الأمن والتصدي للتهديدات المحلية إلى الحلفاء.
على مدى السنوات القليلة الماضية، ظهر انتقاد ناشئ لسياسة أوباما الخارجية من جهة بعض الديمقراطيين، والذي لم تتحدث عنه كلينتون شخصياً، لكنه يبدو متساوقاً مع سجلها. وهذا الرأي -أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم “الإقليمية الجيوسياسية” يعرب عن القلق من تدهور النظام في الشرق الأوسط وأوروبا، ويميل إلى رؤية السياسة الخارجية الصينية في المقام الأول من خلال منظور تأكيدها لذاتها والتعامل بحزم في شرق آسيا. وسوف تشهد فكرة “الإقليمية الجيوسياسية” عودة الولايات المتحدة إلى الفهم التقليدي للمصالح الأميركية والنظام الدولي الليبرالي، باعتبارهما متجذرين في النظم الأمنية الإقليمية المستقرة. ويعني ذلك أن الولايات المتحدة ستفعل المزيد لمعالجة الاضطرابات على المستوى الإقليمي. وسوف تواصل كلينتون العمل على القضايا العالمية، لكن من غير المرجح أن تُعرِّف هذه القضايا نهجها في السياسة الخارجية كما حددت نهج أوباما. وسوف تكون لهذا التحول آثار عميقة على الكيفية التي تعرِّف بها الولايات المتحدة مصالحها، وتوزع مواردها، وتدير دبلوماسيتها.
نهج أوباما العالمي
يرى أوباما أن من مسؤولية أميركا أن تدعم النظام الليبرالي العالمي؛ ومع ذلك، فإنه يرى أيضاً أن الولايات المتحدة كانت عرضة للإفراط في تمديد نفسها سعياً إلى تحقيق هذا الهدف. وكان قد قال مؤخراً لجيفري غولدبرغ من مجلة “الأتلانتيك”:
“هناك كتاب إرشادي لقواعد اللعبة في واشنطن، والذي يُفترَض أن يتبعه الرؤساء. إنه كتاب يأتي من مؤسسة السياسة الخارجية. وهو يصف طبيعة الردود على الأحداث المختلفة. وهي ردود فعل تميل إلى أن تكون عسكرية. حيث تكون أميركا مهددة مباشرة، فإن الكتاب يعمل. لكن هذا الكتاب يمكن أن يكون أيضاً مصيدة قد تقود إلى اتخاذ قرارات سيئة”.
بالنسبة لأوباما، فإن الولايات المتحدة بلد آمن نسبياً. وهو يرى أن الاتجاهات طويلة الأجل إيجابية محلياً وأن هناك الكثير من الأخبار الجيدة في العالم. نعم، ربما يكون الشرق الأوسط في حالة فوضى، لكن لأميركا فرص جديدة في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية. نعم، هناك تهديدات، مثل “داعش” والغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها ليست تهديدات وجودية، والتهديد الأكبر الذي تشكله هو احتمال أن تثير رد فعل مبالغاً فيه. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه التهديدات أن تفوق التهديدات العالمية الوجودية حقاً. وكما قال أوباما لغولدبرغ، فإن “داعش ليس تهديداً وجودياً للولايات المتحدة. التغير المناخي هو تهديد وجودي محتمل للعالم كله إذا لم نفعل شيئاً إزاءه”.
كما أن أوباما واعٍ أيضاً لحقيقة أن الدول الأخرى لا تتحمل ما يعادل وزنها المناسب في الحفاظ على النظام العالمي، معترفاً بأن “الركاب بالمجان يثيرون حنقي”. وحسب وجهة نظره، فإنهم يجب أن يتولوا القيادة في التعامل مع مشاكلهم الأمنية الإقليمية، خاصة في أوروبا والشرق الأوسط. وقال “إن أحد الأسباب التي تجعلني مركزاً على العمل بشكل متعدد الأطراف حيث لا تكون مصالحنا المباشرة على المحك، هو أن تعددية الأطراف تضبط الغطرسة”.
ووصف بنيامين رودس، نائب مستشار أوباما للأمن القومي، عقلية أوباما لمجلة “بوليتيكو”، فقال:
“النظرة الافتراضية في واشنطن هي أن هناك تحدياً في الشرق الأوسط، وعلى الولايات المتحدة أن تحله. وفكرتنا الأساسية كانت، كلا، أنا آسف، لقد تعلمنا عكس ذلك من العراق. ليس الأمر أن المزيد من الانخراط العسكري الأميركي سوف يضفي الاستقرار على الشرق الأوسط. إننا لا نستطيع أن نفعل هذا”.
كان الرئيس أوباما، وفقاً لرودس، “يحاول أن يقصر مشاركتنا بحيث لا تفضي إلى إفراط في التمدد”، وبحيث تستطيع الولايات المتحدة أن تركز على الفرص الممكنة، مثل تغيير المناخ وأميركا اللاتينية.
كان الوضع في شرق آسيا مختلفاً نوعاً ما. وقد حدد أوباما شرق آسيا باعتباره المنطقة التي استثمرت فيها الولايات المتحدة أقل مما يجب، والتي تقدم فرصاً عظيمة. ولذلك عمّق أوباما العلاقات مع حلفاء وشركاء أميركا الشرق آسيويين، خاصة في المجال العسكري. وقد تفاوض على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ، ودفع ضد سياسة الحزم وتأكيد الذات الصينية في بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي. ومع ذلك، هناك توترات بين الإقليمي والعالمي حتى في آسيا. وعلى سبيل المثال، يقال إن البيت الأبيض قصر عملياته الخاصة بحرية الملاحة على بحر الصين الجنوبي حتى لا يعرض للخطر محادثات باريس حول تغير المناخ.
نقد الإقليمية الجيوسياسية
أحد الانتقادات الموجهة إلى نهج السياسة الخارجية للرئيس أوباما هي أنه قلل من شأن المخاطر التي يشكلها الاضطراب الإقليمي على مصالح الولايات المتحدة. ولننظر في الشرق الأوسط. يعتقد أوباما أن الاضطراب في الشرق الأوسط يمكن احتواؤه بحيث لا يهدد المصالح الجوهرية للولايات المتحدة. ومع ذلك، على مدى السنوات الأربع الماضية، أصبحت الحرب الجارية في سورية أسوأ بما لا يقاس، وكذلك حال الوضع في ليبيا. وقد جرَّت هذه الصراعات القوى الخارجية وخلقت تدفقات كبيرة للاجئين، والتي تهدد استقرار الاتحاد الأوروبي. وفي الأثناء، ومع كل سوء الشرق الأوسط بعد الربيع العربي، فإنه يمكن أن يصبح أسوأ بكثير إذا فشلت الدول العربية الكبيرة، مثل مصر والسعودية، وتقسمت وانحدرت إلى الحرب الأهلية. وبالنظر إلى مخاطر احتمال أن يصبح الوضع أسوأ بكثير، يقول العديد من خبراء السياسة الخارجية ذوي الميول الديمقراطية إن على الولايات المتحدة إعادة الانخراط مع الشرق الأوسط بهدف تحقيق الاستقرار في المنطقة. ويعني ذلك إعادة التواصل مع حلفاء أميركا العرب، خاصة الإمارات والسعودية ومصر. ويريد البعض القيام بذلك بلا شروط مسبقة، بينما يريد آخرون محاولة الإصرار على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية في مقابل إعادة الانخراط الأميركي. ويدعو الفريقان إلى دور أكبر للولايات المتحدة في المنطقة.
يطرح أنصار الإقليمية الجيوسياسية حجة مماثلة فيما يتعلق بأوروبا. كان أوباما مُحبطاً من الأوروبيين الذين لم يُعنوا بتوفير أمنهم الخاص. وسعى إلى نقل العبء إلى الدول الأوروبية خلال التدخل في ليبيا في العام 2011. وكان بطيئاً جداً في رؤية العلاقة بين تدفقات اللاجئين وبين استقرار الاتحاد الأوروبي. كما كان غير مهتم نسبياً أيضاً بلعب دور مهم في المناقشات الأوربية الداخلية حول أزمة اليورو والتكامل الأوروبي كما كان قد فعل العديد من أسلافه. وبالنسبة لأنصار الإقليمية الجيوسياسية، كان الاتحاد الأوروبي أصلاً مشروعاً أميركياً، وتمتعت كل خطوة رئيسية في اتجاه التكامل بدعم الولايات المتحدة. ويقولون أن على الولايات المتحدة الانخراط بشكل كامل في أوروبا لمنع حدوث تراجع ديمقراطي، خاصة في أوروبا الشرقية والوسطى، ولتحقيق الاستقرار في أوكرانيا، ولردع روسيا، ولإضفاء الاستقرار على الاتحاد الأوروبي.
يشكل شرق آسيا نوعاً من الاستثناء. وقد ضمت عملية إعادة التوزان والتمحور في اتجاه آسيا التي انتهجتها أوباما العديد من العناصر التي يفضلها أنصار الأقليمية الجيوسياسية. ويمكن تلخيص انتقادها هنا بأنها يجب أن تكون “أكثر وبسرعة أكبر”. وهم يريدون أن تبني الولايات المتحدة على إعادة التمحور، بما في ذلك زيادة حرية عمليات الملاحة، وتعميق التعاون العسكري، وتشجيع حلفاء الولايات المتحدة على مزيد من التعاون فيما بينهم. كما يؤيد هؤلاء الأنصار بقوة اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادئ. ولم تنبع معارضة كلينتون لهذه الاتفاقية من تغيير في موقف الخبراء الديمقراطيين في شؤون آسيا -يرى المتشائمون أن ذلك جاء بدافع السياسة، بينما يرى أولئك الذين يأخذون تصريحات كلينتون بقيمتها الظاهرية أن ذلك يعكس مكامن القلق المشروعة للدوائر الانتخابية المحلية، مثل النقابات العمالية.
كما أن لأنصار الإقليمية الجيوسياسية أيضاً بعض الخلافات الأساسية مع إدارة أوباما. ويتصل أكثرها أهمية بكيفية مقاربتها للدبلوماسية القسرية. وهم ينتقدون الرئيس ووزير الخارجية جون كيري على الانخراط في مفاوضات من دون امتلاك وسائل للضغط. وفي سورية وأوكرانيا، كان يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ خطوات تساعدها في زيادة ضغطها على القوى واللاعبين المنافسين، لكن الرئيس كان متردداً في فعل أي شيء يمكن أن يزيد من مخاطر التدخل العسكري.
إذن، ما هو الدليل على أن هيلاري كلينتون قد تتبنى هذا النهج؟ هناك القليل من الأدلة القاطعة، كما أننا لا ينبغي أن نتوقع وجودها أساساً. ومع ذلك، تبرز الإقليمية الجيوسياسية بوصفها النهج البديل الأكثر قبولاً عن سياسة أوباما الخارجية. وهي متوافقة إلى حد كبير مع سجل كلينتون. فقد كانت من بين أوائل الذين حذروا من عودة بوتين إلى السلطة، وبين أول من دعوا إلى إحداث تحول في السياسة لردع روسيا في أوروبا. وقد وصفت ضم بوتين لشبه جزيرة القرم بأنه يذكرنا بهتلر. كما دعمت اتخاذ خطوات لصياغة الأحدات على الأرض في سورية، بما في ذلك تسليح قوات الثوار من التيار السائد. وحذرت من أن الصفقة النووية الإيرانية ستعمل فقط “كجزء من استراتيجية أكبر تجاه إيران” والتي ترمي إلى احتواء نفوذها في المنطقة. وكانت كلينتون منذ وقت طويل أكثر ميلاً إلى إقامة علاقات التحالف من الرئيس أوباما.
وهناك فارق مهم آخر أيضاً. تبدو كلينتون أكثر راحة بكثير مع مؤسسة السياسة الخارجية للولايات المتحدة من أوباما أو بوش. فهي، في نواح كثيرة، أحد مخلوقات هذه المؤسسة. كما تتواصل كلينتون مع مؤسسات الفكر والرأي الكبرى والشخصيات اللامعة في واشنطن للحصول على المشورة. وخلال الحملة، حصلت كلينتون على تأييد رسمي من عشرات الخبراء والممارسين للسياسة الخارجية الجمهوريين، فضلاً عن كامل نخبة السياسة الخارجية من الديمقراطيين. وقد يقدم لها ذلك فرصة لبناء فريق سياسة خارجية من كلا الحزبين في حال انتخابها. كما أن كلينتون أكثر احتمالاً بكثير لتسخير قوة مؤسسة السياسة الخارجية من احتمال التعارك معها.
من الواضح أن كلينتون سوف تنتهج سياسة خارجية أممية، ولو أنه ليس من الواضح أي نسخة من الأممية سوف تعتمد. ومع ذلك، فإن الاحتمال الأرجح -إذا افترقت عن نظرة الرئيس أوباما إلى العالم- سيكون إسناد أولوية أكبر للمنافسة الجيوسياسية ومستقبل النظُم الإقليمية. ولا يعني هذا أنها ستكون أقل تركيزاً على القضايا العالمية. سوف تبني على نهج إدارة أوباما فيما بتعلق بتغير المناخ، ومكافحة الإرهاب، وعدم الانتشار النووي، لكن ذلك سيكون من خلال منظور الجغرافيا السياسية بدلاً من منظور القضايا العالمية.
الآثار المترتبة على تطبيق سياسة خارجية كلينتونية لآسيا وأوروبا
تشكل آسيا المنطقة التي يتلقي فيها نهج كلينتون وأوباما. سوف تستمر الولايات المتحدة في زيادة انخراطها وحضورها في آسيا، خاصة مع حلفائها في المنطقة. وسوف تكون أستراليا واليابان هما المستفيد الأكبر، نظراً للعلاقات الوثيقة بين هذين البلدين وبين فريق كلينتون. وربما تكون هناك فرصة أمام كلينتون لاستمالة بعض خبراء السياسة الخارجية الجمهوريين، مثل نائب وزير الخاريجة السابق، ريتشارد أرميتاج، الذي دعمها في الانتخابات التمهيدية. وفيما يتعلق بالصين، سوف تكون إدارة كلينتون عازمة على إرسال رسالة حازمة في وقت مبكر حول دور أميركا المستمر في المحافظة على النظام القائم على القواعد في بحر الصين الجنوبي. ومن المرجح أن نشهد زيادة واستمرارية في حرية عمليات الملاحة هناك، فضلاً عن اتخاذ تدابير أخرى لإثبات أن الولايات المتحدة ما تزال ملتزمة بالحفاظ على نفوذها في المنطقة.
من المرجح أن تستخدم كلينتون نجاح ترامب غير المتوقع في الحملة لتطلب من الحلفاء بذل مزيد من الجهد. سوف تقول أن المزيد من التعاون بين الحلفاء الآسيويين، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك زيادة الإنفاق الدفاعي والمزيد من الجهود الأخرى التي يبذلها الحلفاء لدعم النظام الإقليمي، هي أمور تتجاوز المصلحة الحيوية المحلية لكل واحد من هذه البلدان. وربما تقول لهم أن الفشل في القيام بذلك سيضمن أن تظل التحالفات مثيرة للجدل، وبالتالي ضعيفة، في النقاش السياسي الأميركي.
ما يزال مصير اتفاقية الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي غير واضح. ويمكن أن يجد الحلفاء الآسيويون بعض السلوى في حقيقة أن كلينتون تعي أهمية الاتفاقية لنفوذ أميركا في آسيا. وإذا لم تتم المصادقة على الاتفاقية في جلسة كونغرس البطة العرجاء، فسوف تصبح اختباراً مبكراً لسياسة كلينتون الخارجية. وسوف يكون من الصعب على كلينتون أن تناقض نفسها حول الاتفاقية، لكنه ربما يكون من الممكن ربط الاتفاقية بإحراز تقدم في القضايا الاقتصادية الأخرى –خاصة العملات- بحيث تعالج بعض المخاوف التي أثيرت في سياق الحملة الانتخابية.
سوف تكون رئاسة تديرها كلينتون على دراية تامة بالأوروبيين. وتنطوي كلينتون على ارتباط عاطفي أكبر مع التحالف عبر الأطلسي من الرئيس أوباما، فيما يعود في جزء كبير إلى انتمائها إلى جيل نظر إلى أوروبا على أنها منطقة مركزية بالنسبة لأمن الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أنها تحتفظ بروابط وثيقة مع المنطقة منذ أيامها كوزيرة للخارجية. وينظر فريق كلينتون إلى التكامل الأوروبي باعتباره مصلحة أميركية على المدى الطويل، والتي أصبحت الآن تحت التهديد. وبذلك، يمكن أن نتوقع من هذا الفريق البحث عن طرق بناءة لزيادة انخراط الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي –حول مسائل الخروج البريطاني، واللاجئين، وروسيا. وكما هو الحال مع آسيا، من المرجح أن تستخدم كلينتون الصدمة التي أحدثتها حملة العام 2016 للضغط على الدول الأوروبية من أجل زيادة الإنفاق الدفاعي ولعب دور أكثر نشاطاً في العالم -وهو ما سيكون تحقيقه صعباً بشكل خاص، بالنظر إلى مستوى التأمل الذاتي الذي سيعقب التصويت لصالح الخروج البريطاني. وربما يكون أهم معيار للنجاح هو ما إذا كان بوسع إدارة كلينتون أن تنجح حيث أخفقت إدارة أوباما، وأن تتمكن من إقناع ألمانيا بمنح الأولوية للتنمية الاقتصادية على حساب التقشف المالي والميزانيات المتوازنة. وربما توفر الانتخابات الألمانية في العام 2017 فرصة لذلك.
هل تغير شيء في أميركا؟
ربما يكون أهم سؤال ناشئ من انتخابات 2016 هو ما إذا كان صعود الشعبوية والقومية سيخلف تأثيراً دائماً على الولايات المتحدة، حتى لو فازت كلينتون. هل نحن بصدد العودة إلى عقلية ما قبل الحرب العالمية الثانية، حيث تستنطق الولايات المتحدة دورها العالمي وتسعى إلى تخليص نفسها من الالتزامات التي تراكمت على مدى سبعة عقود؟ من المؤكد أن هناك سبباً للاعتقاد بأن الظاهرة الشعبوية هي شيء أكبر من ترامب. وكان تيد كروز أول مرشح في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري يصف سياسته الخارجية بأنها “أميركا أولاً” ويتخذ موقفاً قومياً بحزم. وفي الحزب الديمقراطي، أراد بيرني ساندرز تخفيض دور أميركا في العالم وانتقد الرئيس أوباما على فعله الكثير جداً. والأهم من كل شيء، هو أن أوباما انتهج سياسة خارجية سعت بدأب إلى وضع قيود أكبر على انخراط الولايات المتحدة في الخارج. ولكن، مع أن هذه الأساليب والمناهج -ترامب، كروز، ساندرز وأوباما- تختلف جذرياً، فإنها تتقاسم شيئاً واحداً مشتركاً بينها: إن أياً منها لا يسعى إلى زيادة دور الولايات المتحدة بقدر يعتد به في دعم النظام الأمني الدولي. وهناك جزء كبير من الجمهور يوافق على ذلك. وفي العام 2016، وجدت مجموعة بيو للأبحاث أن 37 % فقط من الأميركيين يقولون إن الولايات المتحدة “يجب أن تساعد الدول الأخرى في معالجة مشكلاتها”، بينما قالت أغلبية (57 %) إن على الأمة “التعامل مع مشكلاتها الخاصة وأن تترك للدول الأخرى شأن التصدي لمشكلاتها الخاصة بأفضل طريقة تستطيعها”.
لا يجب التعامل مع هذه الرغبة في الحد من الانخراط الأميركي في العالم على هذا النحو باعتبارها مفاجأة كبيرة؛ إنها نزعة متجذرة عميقاً في التقليد السياسي الأميركي، حتى ولو أنها غير ممثلة تمثيلاً جيداً في مؤسسة السياسة الخارجية. وربما يكون مكمن الغموض هو تحديد السبب في أن تستغرق عودتها كل هذا الوقت الطويل. ويحتمل كثيراً أن يكون غزو العراق، والأزمة المالية العالمية، وانخفاض مستويات النمو، قد سببت للأميركيين تغيراً في الميول. ومع أن سياسة ترامب الخارجية فجة وتدور على الحواف، فإنها تجد صدى عند الناس لأنها تعكس هذه المخاوف. وسوف يكون السؤال الذي سيطرحه الكثير من بقية العالم: هل تكون حملة 2016 دليلاً على تراجع التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن النظام الدولي؟ لكن التنبؤ بذلك يظل مستحيلاً، بطبيعة الحال.
ومع ذلك، هناك بعض المؤشرات التي تمكن ملاحظتها
المؤشر الأول هو لهجة الخطاب الرئاسي في العالم. ولعل أحد أكثر الانتقادات شيوعاً لأوباما، والذي يأتي من أولئك الذين يريدون منه أن يفعل المزيد دولياً، هو أنه يتحرك في حلقة مفرغة مع الشعب الأميركي. إنه يقول لهم أن هناك حدوداً على ما تستطيع الولايات المتحدة فعله، وأن الانخراط في سورية
أو أي أزمة أخرى هو أمر ميؤوس منه. وهم يصدقونه. ثم يستطيع الإشارة بعد ذلك إلى حقيقة أن لديه دعماً شعبياً. ويقول المنتقدون أن رئيساً يستطيع صنع قضية واضحة لصالح العمل في الخارج سيستطيع أن يبنى ويديم الدعم الشعبي لهذه القضية. وهناك بالتأكيد دعم لهذه الحجة في التاريخ الأميركي. وإذا انتُخبت كلينتون، فمن المرجح أن تطرح قضية زيادة الانخراط الأميركي علناً، وبذلك سنعرف ما إذا كانت هذه الأطروحة ستستمر في الصمود.
المؤشر الثاني هو مصير الحزبين السياسيين الرئيسيين. فإذا هُزم ترامب، هل سيرتد الجمهوريون على رسالته ويعودون إلى اعتناق نظرة عالمية أممية؟ أم أن النجوم الصاعدين في الحزب الجمهوري سيخلصون إلى أن رسالة ترامب، أو أي نسخة منها، ربما تكون رسالة رابحة إذا كان مرسلها بارعاً سياسياً وأقل هوساً بالذات؟ من الجدير ملاحظة أن الساسة الجمهوريين الأصغر سناً، مثل السيناتور توم كوتُن، والذين كان يفترض أن يكونوا محافظين جدداً في نظراتهم، دعموا ترامب، بل وزعموا أنهم يقاسمونه وجهات نظره حول حلف الناتو. ولدى الديمقراطيين قضاياهم الداخلية الخاصة أيضاً. هل سيدعم الحزب أممية كلينتون، أم أن قومياً يخلُف ساندرز سيبرز برسالة سياسة خارجية ذات تركيز داخلي، ويصبح قوة كبيرة في الانتخابات التمهيدية للعام 2020؟
المؤشر الثالث هو، كيف سيرد حلفاء أميركا؟ ينبغي أن تكون حملة 2016 بمثابة دعوة للاستيقاظ. وكانت الإدارات المتعاقبة قد دعت الحلفاء إلى زيادة إنفاقهم الدفاعي وإلى تحمل حصة أكبر من العبء، وإنما بنجاح محدود. ومن شبه المؤكد أن تقول إدارة ترأسها كلينتون أن حقيقة كون ترامب قد أبلى حسناً تبين أن التحالفات أصبحت الآن قضية سياسية، ولا يمكن أخذها بحكم المسلمات. وإذا شرع الحلفاء في إنفاق المزيد على الدفاع، والتعاون أكثر مع بعضهم البعض، ولعب دور فعال في الحفاظ على النظام العالمي، فإن الرؤساء المستقبليين يستطيعون أن يقولوا بشكل مقنع للجمهور الأميركي أن نظام التحالفات يعمل. أما إذا فعل الحلفاء أقل، فإن التحالفات ستستمر في أن تكون موضوعاً مثيراً للجدل.
يرتبط المؤشر الأخير بالمناخ الاقتصادي العالمي. ففي حال عاد النظام الاقتصادي العالمي إلى النمو القوي والمستدام، سيكون من الأسهل على الرئيس الأميركي وقادة العالم الآخرين تبرير دعم التجارة الحرة واستمرار التكامل الاقتصادي. أما إذا كان النمو منخفضاً أو إذا واجه العالم أزمة مالية عالمية جديدة، فإن الضغط على الأممية سيكون شديداً. وربما نكون متجهين نحو حقبة جديدة من الحمائية، مع آثار الضغوط الهبوطية التي يمكن التنبؤ بها على النمو، وتجدد الدعم داخل الولايات المتحدة لسياسة خارجية تقوم على التقشف والتخندق.
الخلاصة:
اعتباراً من تشرين الأول (أكتوبر) 2016، تكوَّن إجماع فعلي في مجتمع السياسة الخارجية في الولايات المتحدة وبين حلفاء أميركا على أن دونالد ترامب يشكل تهديداً كبيراً للأمن القومي الأميركي والنظام الدولي. وفي مشاهد مذهلة وغير مسبوقة، ندد العشرات من الجمهوريين الذين كانوا قد خدموا في أعلى المستويات الحكومية بمرشح حزبهم. وفي مجتمع مستقطب، يمكن أن يحدث هذا فقط في لحظة الشعور بخطر كبير على الديمقراطية الأميركية والمصالح القومية الأميركية. ولا يستطيع أحد تحت أي ظروف أخرى تخيل أن يقطع هذا العدد الكبير من الناس الطريق للتصويت لصالح عضو من الحزب الآخر.
سوف تتكشف آثار انتخابات العام 2016 على مدى السنوات الأربع القادمة، وربما لفترة أطول. وإذا فازت كلينتون، فستكون لديها الفرصة للبناء على الدعم الذي تلقته من الجمهوريين، خاصة في شؤون الأمن القومي، لإعادة بناء إجماع من الحزبين على السياسة الخارجية. وستكون أصعب مهماتها هي إعادة إقناع الشعب الأميركي بمزايا زيادة الانخراط الأميركي لتقوية كل من المكونات الأمنية والاقتصادية للنظام الليبرالي العالمي.
النتائج الرئيسية للدراسة
• من المرجح كثيراً أن ترتكز سياسة ترامب الخارجية على معتقداته السياسية الثلاثة: معارضة علاقات التحالف الأميركية؛ معارضة نهج التجارة الحرة؛ ودعم الاستبداد، لا سيما في روسيا.
• من المرجح أن تعكس سياسة كلينتون الخارجية المزيد من الأممية التقليدية، لكنها قد تميز نفسها أيضاً عن إدارة أوباما ببذل جهد أكبر للتعامل مع التحديات الإقليمية للنُظم في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا.
• إذا فازت كلينتون، فسوف تحتاج إلى الرد على تنامي الشعبوية والمشاعر القومية في أميركا لصالح الحد من انخراط الولايات المتحدة في العالم.
توماس رايت
صحيفة الغد