لا أثر لخارطة طريق تفترض اتفاقا وحلا سياسيا لمدينة الموصل بعد تخليصها من أسر تنظيم داعش. لم تعلن عن ذلك، لا الحكومة العراقية، ولا أميركا التي تتزعم التحالف الدولي ضد التنظيم وتشارك بفعالية في القتال ضده، وهما اللتان حشّدتا معا، عشرات الآلاف من المقاتلين عدا استعدادات وتحضيرات عسكرية كبيرة.
ما تم التصريح عنه بوضوح، من قبلهما، هو إخراج التنظيم من المدينة العتيدة والقضاء عليه عسكريا. لا أحد يعلم إلى ما ستؤول إليه الأمور في الموصل بعد داعش، وكيف تمكن إعادة توزيع الأدوار على وقع تنافس محلي وإقليمي عليها؟ وما ذكر بشأن المرحلة القادمة، لا يتعدى سوى مخاوف وتكهنات وسجال غامض حول مستقبلها، اختزل على شكل تصريحات سياسية، أو تحليل لمواقف، أو قراءات متباينة لمراكز أبحاث ومنظمات سياسية دولية.
مخاوف من صراع أعمق سوف يبدأ بعد استعادة المدينة مبررة بأسباب ما أفصحت عنه أو ما تضمره الأطراف التي تشارك في القتال على الأرض، فعدا القوات العراقية المتمثلة في المؤسسة العسكرية والأمنية، هناك ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من إيران على مستوى التدريب والاستشارة والتوجيه، وقوات البيشمركة الكردية العائدة إلى إقليم كردستان العراق، والقوات التركية المتواجدة في بعشيقة، وكذلك، مجموعات مسلحة، داخلية، من أهالي محافظة نينوى مدربة من قبل تلك القوات، ما يشكل طيفا، متعدد المرجعيات، متعارضا ومختلفا، لجهة التوجهات التي يسعى في المضي إليها، وفرضها، سواء على مستوى المصالح أو الأطماع وتنفيذ أجندات إقليمية وداخلية.
حينما أعلن العبادي ساعة انطلاق معركة استعادة الموصل، كان إعلانه ملحقا بأمنية لا غير “سنعمر ما دمرته عصابة داعش ونعيد الحياة ونحقق الاستقرار في الموصل”، فيما لم تتخذ الولايات المتحدة سوى دور يماثل مهمة حكم في مباراة: السماح باللعب وفق القواعد. رفعت بطاقة حمراء ضد مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في معركة الموصل، ولكنها سمحت بالانتشار في الجهة الغربية لمدينة الموصل وصولا إلى تلعفر التي تسكنها أغلبية من التركمان الشيعة، لكن دون دعم من التحالف الذي اكتفى بدعمه للعناصر الواقعة تحت القيادة والسيطرة المباشرة لقوات الأمن العراقية. وهي مشاركة نظرت إليها العديد من الأطراف، السنية خاصة، وجهات عربية وإقليمية ودولية، بعين الريبة، جراء مخاوف تتعلق بعمليات تطهير طائفي وفوضى.
كما منحت، الولايات المتحدة، حضورا رمزيا لتركيا، متمثلا بمشاركة طيرانها في المعركة، عدا مشاركة متطوعين من الحشد العشائري، الذين تتراوح أعدادهم، ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل، من سكان أهالي نينوى يشرف على أعدادهم محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي، كانوا قد تدربوا على يد قوات عسكرية تركية، صغيرة العدد، متمركزة في معسكر بعشيقة شمال الموصل.
تقدم الحشد الشعبي في الجانب الجنوبي الغربي للموصل للسيطرة على قضاء تلعفر، والذي جاء بعد أيام من وصول قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى بغداد. وهو متزامنا، كذلك، مع عمليات حفر خنادق وإقامة سواتر ترابية من قبل القوات الكردية بعد أيام من سيطرتها على عدة قرى شرق مدينة الموصل وشمالها، والتي ستقف عندها، كونها رسما لحدود مستقبلية للإقليم.
يستدعي هذا التقدم، التفكير بما سيؤول إليه المشهد في الأيام القادمة، أمام زخم التقاطعات التي تنبأت بها العديد من التصريحات السياسية، والتي من أهمها، التصريح الأخير للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي قال فيها إن مدينة تلعفر قضية حساسة لتركيا.
يحتفظ قضاء تلعفر بأهمية جغرافية، فهو على مبعدة ما يقارب العشرات من الكيلومترات من كل من تركيا وسوريا، إضافة إلى إقليم كردستان العراق. وكانت تقارير بينت أن إصرار ميليشيات الحشد الشعبي على السيطرة على تلعفر، هو لغرض وقف تمدد قوات البيشمركة في غرب الموصل، وتأمين خط يوصل ما بين إيران وسوريا، لجهة مد النظام السوري بالأسلحة والميليشيات التي تقاتل إلى جانب النظام، ووصول إيران الى حدود البحر المتوسط.
تتعزز المخاوف، كذلك، من وجود نوايا لدى سياسيين سنة من ضمنهم قوى منضوية في العملية السياسية بزعامة نائب رئيس الجمهورية أسامة النجيفي، لتأسيس ما يسمى بإقليم نينوى، تكون مركزه مدينة الموصل مع إعادة رسم للخارطة الإدارية للمحافظة، على أن يضم ثلاث محافظات سيتشكل منها الإقليم مستقبلا.
يحظى هذا المشروع بقبول إقليم كردستان وحكومة تركيا، وترفضه حكومة بغداد بتأثير مجموعات سياسية موالية لإيران مازالت هي الطرف الأقوى في المشهد السياسي العراقي، لما يشكله ذلك من تحرر أهالي تلك المناطق من سلطة الحكومة المركزية وهيمنتها السياسية والأمنية، والتي مازالوا ينظرون إليها، بعدم ثقة، عدا مخاوف المركز من أن يكون الإقليم جهة مواجهة، ومركز جذب لعناصر مناوئة لتداعيات المشروع الإيراني في العراق.
لا ترغب تركيا بوجود ميليشيا الحشد الشعبي، بمستشاريهم الإيرانيين، وصلتهم المستجدة مع الفصائل الكردية، على مقربة كيلومترات عدة من حدودهم، فذلك يعني بالنسبة إليهم استفزازا إيرانيا معلنا، كما لا تطيق ميليشيا الحشد تمدد قوات البيشمركة في سهل نينوى وقضمهم لأراض يدعون أنها كردية، فيما ستنظر مجموعات الحشد العشائري في الموصل، إلى تمركز ميليشيا الحشد على الجهة الغربية للمدينة، تهديدا لفكرة إنشاء إقليم سني.
هذه ليست تقاطعات في الشأن السياسي، وإنما دوافع تمّهد لأشكال معينة من الصراع. ذلك ما يجعل مرحلة ما بعد داعش في الموصل، تستدعي مخاوف من مجهول قادم.
سعد القصاب
صحيفة العرب