بعد بضعة أشهر على وصول رياح الربيع العربي إلى ساحات المدن اليمنية أوائل سنة 2011، اندلع عنف مذهبي ضارٍ في المحافظات الشرقية والشمالية من البلد، بين المتمرّدين الحوثيين الزيديين والناشطين السلفيين المقاتلين. وكان الشكل السلفي المتشدد من الإسلام السنّي، وهو جديد –نسبيا- على اليمن، قد نشأ في ثمانينات القرن العشرين، بعد أن وجد قبولا واسعا بين الآلاف من الجهاديين اليمنيين الذين قاتلوا الاتحاد السوفيتي في أفغانستان.
ويقول الباحث خالد فتاح في دراسته التي حملت عنوان “الطائفية والقبلية وسياسة بقاء النظام في اليمن” إنه عند تصدّر الجناح السلفي من حزب الإصلاح السياسي المشهد، وبعد أقل من عشرة أشهر على الثورات الأولية التي أجبرت علي عبدالله صالح على التخلّي عن الرئاسة، قُتل المئات من المقاتلين السلفيين والحوثيين، وجُرح الآلاف، وهوجم العديد من البيوت، والمستشفيات، والمدارس، والأسواق، وحتى المساجد. ونظرا إلى أن هذا العنف المذهبي وقع في إطار الصراعات الثأرية، فقد أدّى إلى تصاعد مخيف للعنف الجماعي وانعدام الاستقرار.
ويشير الباحث فتاح في دراسته التي تضمنها كتاب “اليمن من الإمامة إلى عاصفة الحزم” الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، إلى أنّ الخارطة الطائفية في اليمن تتميز بتفاعلها الفريد مع المعالم الجغرافية، إذ يتركّز، وعلى سبيل المثال، الزيديون الشيعة الذين يشكّلون ما يقارب 45 بالمئة في المناطق الجبلية الشمالية الوعرة، وفي الأقسام الشرقية الأكثر جفافا وانبساطا من البلاد. وفي مثل هذا الوضع تسيطر الرعوية على الحياة الاقتصادية الاجتماعية بدلا من الزراعة.
الزيدية في اليمن، كما يوضح بحث خالد فتاح، هي أقرب إلى الإسلام السنّي من الفرعين الشيعيين الآخرين (الإمامية والإسماعيلية) حتى أنّ البعض من الجماعات الشيعية تطلق عليها تسمية المذهب السنّي الخامس. ومؤسس المذهب الزيدي هو زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (695-740)، أحد أعمام جعفر الصادق، وقد قُتل في الكوفة عندما قاد ثورة على الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبدالملك. وخلافا لمعظم الشيعة الذين يعدّون أخا زيد غير الشقيق: محمد الباقر، الإمام الخامس، فإن الزيديين يعترفون بأن زيدا هو الإمام الخامس الشرعي.
يتصل تركيز الزيدية على فلسفة الإرادة الحرّة والعقلانية بدلا من اتباع النصّ الحرفي بتماثل أسسها الدينية مع الأسس التأمّلية للمعتزلة؛ التي ازدهرت بين القرنين الثامن والعاشر في البصرة وبغداد.
وخلافا للشيعة الاثني عشرية، يؤكّد التراث الديني الزيدي أن لا ضرورة لأن يكون الإمام معصوما بقوى خارقة للطبيعة، ويرفض الزيديون مفهوم الإمام الغائب ويشددون على أن الأئمة الذين سمّاهم الله ورسوله، يقتصرون على علي وولديه الحسن والحسين، كما أنهم يقبلون احتمال وجود أكثر من إمام في الوقت نفسه، ويقرّون بأن الإمام قائد روحي وزمني يمكن عزله واستبداله بآخر.
هذا الانقسام المذهبي، أنشأ، ووفقا لنمط الإنتاج بين المذهبين الإسلاميين الزيدي والشافعي، تاريخين مختلفين لليمن
المذهب الزيدي براغماتي إلى حدّ أنه يقبل “حكم المفضول (ولكن المؤهّل) على الفاضل (ولكن غير المتاح)“. وتعرف هذه الخاصية المميّزة للزيدية في دوائر علماء الدين المسلمين بأنها “تقديم المفضول على الفاضل”. وقد اعترض العالم الديني اليمني المميّز محمد الشوكاني، الذي قاد التحوّل من الشيعية التقليدية إلى الإصلاحية السنّية، فكريا على الكثير من الأسس الجوهرية للمذهب الزيدي في القرن التاسع عشر.
يسيطر السنّة الشافعيون، الذين يشكّلون الطائفة الدينية الكبرى في اليمن، على المرتفعات الجنوبية والمناطق الساحلية التي تتساقط عليها أمطار موسمية وفيرة، وتعرف جماعيا باسم اليمن السفلى.
أدّت الأماكن الجغرافية إلى أن تتميّز الحياة الاجتماعية الاقتصادية للشافعيين السنّة بالزراعة المستقرّة، والملاحة البحرية، والأنشطة التجارية. وطوال تاريخ اليمن، كانت معظم الصلات الثقافية والأنشطة التجارية مع العالم الخارجي تتم عبر المدن والبلدات الشافعية. ونتيجة لذلك، كان السنّة الشافعيون في اليمن أكثر انفتاحا على الخارج، ولديهم معدّل هجرة أعلى مما لدى الشيعة الزيديين. وبمرور الوقت، أنشأ هذا الانقسام المذهبي، ووفقا لنمط الإنتاج بين المذهبين الإسلاميين الزيدي والشافعي، تاريخين مختلفين لليمن.
شهدت السلطة المركزية في صنعاء طوال التاريخ الحديث تقييد فاعليتها بضعفها العسكري، مقارنة بالقوّة المسلّحة للتكتّلات القبلية الشديدة الاستقلالية، في الأجزاء الشمالية والشرقية الواسعة من البلد. ونتيجة للتغلغل القبلي العميق في الجيش على المستويات الدنيا والعليا، فإن محاولات تقوية الجيش بغية حماية إرادة السلطة المركزية وإنفاذها، تحمل مخاطر تحويله إلى تهديد لكيان السلطة الضعيف، ولذلك فإن عدم قدرة السلطة المركزية على احتكار استخدام الإكراه، يجعل الدولة عديمة الأهمية في العديد من المناطق القبلية في البلاد.
شرط إلغاء الدولة يتيح ازدهار الجهات الفاعلة المسلّحة في العديد من الأماكن التي يسودها الاضطراب في المحافظات الشمالية والشرقية والجنوبية من البلد. ويتراوح طيف هذه الجهات الفاعلة بين الجهاديين المقاتلين والمتمرّدين الطائفيين والجماعات الانفصالية والميليشيات القبلية. وفي سياق إلغاء الدولة، أنشأت هذه الجهات الفاعلة مراكز قوة موازية، ومؤسسات مخصّصة بديلة، وشبكات عبر وطنية خاصة بها. وقد أوضحت ليزا ويدين، أسـتاذة العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، والمتخصصة في السياسة المقارنة بالشرق الأوسط، كيف أن التضامن الوطني ومفاهيم المواطنة والوطنية لم يتطوّرا في اليمن الهشّ عبر مؤسسة الدولة، وإنما عبر ما أسمته سياسة الشعب الأدائية اليومية.
وفي العقد الأخير، انتقلت هشاشة الدولة اليمنية بسرعة إلى المستوى الأعلى لاهتمامات الأمن القومي للولايات المتحدة، ففي أعقاب الهجمات الانتحارية على المدمّرة “يو إس إس كول” في أكتوبر 2000، وعلى ناقلة النفط الفرنسية “إم في ليمبورغ” في أكتوبر 2002، ومحطة الشحر النفطية الطرفية قرب ميناء المكلا اليمني، وضعت الولايات المتحدة اليمن ضمن مواقع التكاثر المشبوهة للإرهاب، التي تمتدّ من الساحل والقرن الأفريقي إلى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
صحيفة العرب اللندنية