تعد مراجعة التجربة السياسية، والقصد من ذلك المراجعة النقدية، من أهم العمليات التي يفترض بالحركات السياسية القيام بها، في المحطات المختلفة، سواء في المؤتمرات الدورية، أو في سياق العمل اليومي. إلا أن غالبية حركاتنا السياسية، كما نعلم، لم تختبر هذه المراجعات يوماً، بل إنها، كما بينت التجربة، تستنكر أي ملاحظة حول مواقفها، وتأنف أي موقف نقدي لسياساتها وممارساتها، بل إنها قد تعتبر ذلك جزءاً من عملية معادية لاستهدافها، أو لإضعافها.
لذا فإن حركاتنا السياسية بمعظمها للأسف تظن أنها مخلدة، وتمتلك الحقيقة، بل إنها تعتقد أن شعاراتها وخطاباتها تعد من البديهيات واليقينيات، أي فوق النقاش، بدل أن تشجع على عملية التفكير، وبالأخص التفكير النقدي، لذلك فليس غريباً أن نجد أغلب الجماعات الحزبية بمثابة جماعات مغلقة تتمحور حول بعضها، مثل العائلات والعشائر والطوائف، وتلتف حول حركاتها السياسية، في تماه مع الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن الشعب مجرد جماهير ليس لها إلا أن تهزج بشعارات القائد، أو الحزب القائد.
في مواجهة هذا الوضع، من المفيد أن يدخل في إدراكات المنتمين للحركات السياسية، وحتى بعض المعارضين والمثقفين (ومنهم طبعاً الصحافيون) اللامنتمين لأية حركات، أن السياسة تعني المشاركة السياسية، وحرية الرأي والتعبير والتظاهر، وتالياً النقد، وفي أساسه النقد الذاتي، لأن أية حركات سياسية لا تواجه ذاتها ولا تنتقد تجربتها، هي حركات لا تستحق الحياة، إذ إنها تبدو غير واثقة من نفسها، ولا حتى من مسيرتها، فضلاً عن أن ذلك يعني أنها فقدت حيويتها، وقدرتها على التطور والتجديد.
كانت هذه مقدمة ضرورية للتطرق إلى نقد المعارضة السورية ونقد نقدها، إذ واجهتني في نقدي للمعارضة، في المقالات التي كتبتها في هذه الجريدة (وفي غيرها،) بعض المواقف التي أخذت أو استكثرت علي نقدي للمعارضة، بحكم أنني في موقع نائب رئيس «الائتلاف الوطني»، وقد فات هذا البعض أنني مواطنة سورية، قبل أن أكون في هذا الموقع أو ذاك، لذا فمن البديهي أن يكون لي أيضاً موقفي النقدي من المعارضة وكياناتها السياسية وشعاراتها وطرق عملها، علماً أنني حتى قبل أن أكون في أي كيان في المعارضة فأنا كاتبة وإعلامية منذ أكثر من عقدين.
ما أقصده أنه سواء كنا في حزب ما، أو في حركة سياسية ما، لا ينبغي لنا أن نلغي عقولنا، أو أن نلغي ملكة التفكير، بخاصة التفكير النقدي لدينا، وإذا كنا كذلك فما الذي سنضيفه، في هذه الحال، الى الثورة، أو الى عملية التغيير في سورية؟
جاء النقد لمقالاتي النقدية من بعض المنتمين للكيان السياسي ذاته الذي أنتمي إليه (الائتلاف)، ظناً منهم أن هذه الملاحظات ينبغي أن تطرح في الإطار، ما يذكرنا بالأحزاب الشمولية، التي تأنف التغيير وتمنع النقد، وتتحدث عن الالتزام بالأطر، وعدم نشر الغسيل «الوسخ» في الخارج، وهذا يعني تحويل الأحزاب والحركات السياسية الى حركات لزعيم أو لقائد أو لفئة، وتحريم التفكير، والتربية على إلغاء العقل. لكن المفاجأة الأكبر بالنسبة إلي أن مثل هذا النقد جاء من بعض المعارضين، من غير المنتمين لحركة سياسية، إذ استكبر علي هذا البعض نقدي لمؤسسة أنا أنتمي لها، أو لأن لي موقعاً قيادياً فيها، وهذا كلام خاطئ وقاصر، إذ إن نقدي للمعارضة هو جزء من انتمائي للثورة السورية، وجزء من تعبيري عن موقفي كإنسانة وككاتبة، والشجاعة هنا أن أنتقد الإطار الذي أشتغل فيه، بمعنى أنني أحاول أن أنقل أفكاري إلى الفضاء العام، إيماناً مني بالمشاركة السياسية، وبحق الجميع في الاطلاع، ولوضع تجربتنا في موقع الفحص والمساءلة، وأيضاً لتشكيل حالة ضغط شعبية، من خلال توسيع قاعدة الرأي العام التي تشجع على التغيير والتطوير.
طبعاً من حق أي كان أن يفترض أن الموقف الصحيح هو الاستقالة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، في ظروفنا السورية المعقدة: ماذا بعد الاستقالة؟ أو ما هو البديل؟ ثم لماذا لا يكون الأصح أن أستمر في حالة الانتقاد والضغط وصوغ الرأي العام لتطوير الكيان السياسي الذي أشتغل فيه، أو لتهيئة الأوضاع لخلق بديل مناسب له في الظروف المواتية؟ وما أريد أن أنوه به هنا هو أن موقفي من «الائتلاف» ليس جديداً إذ هو قديم، وقبل أن أشغل موقعي كنائب للرئيس في هيئته القيادية، وهذا ما تمكن ملاحظته من هذه المقابلة التلفزيونية المخصّصة لنقد «الائتلاف»، والمسجلة قبل عامين ((https://www.youtube.com/watch?v=0mKG1uJ0fVA)
أود أن أقول إنني أتصرف وفق قناعتي بضرورة إشراك أوسع قطاع من السوريين، وأوسع قطاع من أوساط المعارضة في الرأي، لا سيما الذين يشعرون أن كيانات ومؤسسات المعارضة هي لهم، وتعبر عنهم، ويفترض أن تمثل كفاحهم، بما لها وما عليها، وهذا هو معنى المشاركة السياسية. كما أنني أعتبر أن عملية النقد جزء من العملية الثورية، وجزء من عملية التغيير، أي تغيير وتطوير الأفكار، وهذه مسؤولية كل كاتب ومثقف ضمن الأطر السياسية أو خارجها، وهذه مهمة لا يستهان بها لأنها تسهم في زيادة الضغط على المؤسسات والكيانات السياسية لإصلاح ذاتها وتقويم أدائها وتطوير أوضاعها. أما المراجعات الداخلية فقد تستخدم كوسيلة فقط لصراعات ومنافسات التكتلات داخل الجسم المعارض، وبالتالي كسب أصوات انتخابية تغير في الأسماء أو في الشكل من دون تغيير في المضمون أو الأفكار وأشكال العمل.
على ذلك، فقد كان النقد الذي مارسه كتاب من داخل هذه المؤسسات كميشيل كيلو وفايز سارة، مثلاً، إضافة إلى كتاب من خارج هذه المؤسسات كياسين الحاج صالح وسلامة كيلة وجمال خاشقجي وماجد كيالي وعبد الوهاب بدرخان وعمر قدور وغيرهم، وسيلتنا لإلزام هذه المؤسسات ومنها «الائتلاف»، والضغط عليها، لإصلاح أوضاعها الداخلية، وتوسيع دائرة تمثيل فئات الشعب وإيلاء اهتمام أكبر لقضايا السوريين داخل بلدنا وخارجه. ويأتي بين خطوات الإصلاح توسعة تمثيل المرأة، التي فشل «الائتلاف» بتحقيقها ثلاث سنوات متتالية، ما يفترض مساندتها حتى ولو لم تحقق كل المعايير المطلوبة، لأنها خطوة بالاتجاه الصحيح. المشكلة أنه بدلاً من ذلك فاجأنا البعض بالأحكام المسبقة والمتسرعة عليها بالفشل تارة وبأنها مجرد أدوات تزيينية (ماكياج)، من دون إعطائها فرصة التعبير عن نفسها. والمؤسف أن يكون هذا البعض طالب مراراً بالتوسعة، لكنه عند إنجازها قلل من شأنها بدل الحضّ على تطويرها، كي تكون المرأة شريكاً فاعلاً في صناعة القرار سواء الآن أو في المرحلة الانتقالية، وخلال صياغة كل وثائق سورية التي نريد، كالدولة الديموقراطية التعددية، دولة المواطنين الأحرار المتساوين.
سميرة المسالمة
صحيفة الحياة اللندنية