لم أستبعد فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، وهو ما عبَّرت عنه في تصريحات صحافية، قبل ساعات من بدء التصويت. ما دفعني إلى ترجيح هذا الاحتمال هو تصاعد المد اليميني المتطرف في الدول الأوروبية. وإذا أخذنا فرنسا كنموذج، فسوف نكتشف أن هذا المد وصل إلى مرحلة خطيرة. ففي الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2012 احتلت مارين لوبن، زعيمة «الجبهة الوطنية» المتطرفة، المركز الثالث بحصولها على حوالى 20 في المئة من الأصوات، في سابقة هي الأولى من نوعها. وفي انتخابات البرلمان الأوروبي للعام 2014 حصلت «الجبهة الوطنية» التي تتزعمها لوبن على 25 في المئة من الأصوات (مقابل 6 في المئة فقط في انتخابات 2009) كما حصلت في الانتخابات البلدية للعام 2016 على 28 في المئة من الأصوات بإجمالي 365 مقعداً (مقابل 118 فقط في انتخابات 2010). ويتوقع كثيرون أن تتصدر لوبن الجولة الأولى في انتخابات الرئاسة للعام 2017، وهو ما سيمكنها من خوض جولة الإعادة، وبالتالي من احتمال أن تصبح رئيسة لفرنسا رغم أن كثيرين يستبعدون هذا الاحتمال. وإن دلت هذه المؤشرات على شيء، فعلى أن أوروبا تتغير بشدة نحو الأسوأ. ومن أسباب ترجيحي فوز ترامب أيضاً، أنه على رغم أن استطلاعات الرأي كافة رجَّحت بقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، جاءت نتائج التصويت لصالح الانسحاب، ما شكَّل مفاجأة صادمة راحت أصداؤها تتردد في مختلف أنحاء العالم. وقد استنتجتُ شخصياً من الملابسات التي أحاطت بهذا الاستفتاء بالذات أن صورة العالم كما تعكسها وسائل الإعلام وقياسات الرأي العام تختلف عن صورته الحقيقية، وهو ما دفعني للحذر من استطلاعات الرأي العام الأميركية التي ظلت حتى اللحظة الأخيرة تؤكد فوز هيلاري كلينتون بأغلبية مريحة. واستند توقعي كذلك إلى ترجيح عدد من المتخصصين والمراقبين المرموقين فوز ترامب، فأستاذ التاريخ الأميركي ألان ليمان، الذي سبق له التنبؤ بنتائج انتخابات الرئاسة الأميركية منذ عام 1984 مستخدماً سلَّة «مفاتيح» أكاديمية من تصميمه، أكد في حديث نشرته صحيفة «واشنطن بوست»، فوز ترامب بهامش ضئيل، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ستوني بروك، هلموت نورباث والذي اشتهر بتصميم «نموذج إحصائي» لدراسة انتخابات الرئاسة الأميركية منذ العام 1912 وسمح تطبيقه بالتنبؤ بنتائجها في شكل صحيح منذ عام 1960، لم يستبعد بدوره فوز ترامب. أما المخرج وكاتب السيناريو الأميركي الشهير، مايكل مور، فنشر على صفحته مقالاً موحياً بعنوان «خمسة أسباب ترجح فوز ترامب».
حين يتمدد اليمين المتطرف في أوروبا إلى هذا الحد، وتقرر غالبية الناخبين البريطانيين الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ثم يدخل رجل مثل ترامب إلى البيت الأبيض، فليس لهذه المؤشرات كلها سوى معنى واحد، وهو أن النظام العالمي يمر بمرحلة شديدة الاضطراب، وأن فوز ترامب هو نتاج الفوضى التي ضربته وليس سبباً لها، وبالتالي هو فوز كاشف لعمق أزمة هوية تجتاح عالماً متباين الثقافات والحضارات، يتعولم بمعدلات متسارعة تهدد بإفراز مزيد من مظاهر التطرف ورفض الآخر، والدفع نحو العودة إلى الجذور بحثاً عن ذوات قومية أو عرقية أو دينية أو مذهبية أكثر قدرة على التعبير عن خصوصية المجتمعات. لقد عكست تصريحات ترامب إبان الحملة الانتخابية احتقاراً شديداً للمرأة، وفضحت توجهاته العنصرية المنحازة للبيض وللأثرياء والمعادية للمسلمين خصوصاً، وأكدت أن هذا الرجل ليس معنياً إلا بعودة أميركا القوية والمهابة من وجهة نظره، ولو على جثة العالم كله. فقد تعهد بحظر دخول المسلمين (المتطرفين أو المسلمين عموماً) الى الولايات المتحدة، وبترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين، وبإلغاء برنامج أوباما للرعاية الصحية، وبإجراء تخفيضات كبيرة على الضرائب، وبانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية التغيرات المناخية ومن مناطق التجارة الحرة، وبفرض رسوم جمركية باهظة على أي منتجات صينية تدخل السوق الأميركية، وبإقامة سور على الحدود مع المكسيك تتحمل الأخيرة كلفته، وبتحميل حلفاء الولايات المتحدة، خصوصاً في حلف شمال الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي، قسطاً متزايداً من الأعباء المالية في مقابل ما تقدمه الولايات المتحدة من حماية أمنية، وبإلغاء الاتفاقية المبرمة مع إيران حول برنامجها النووي… إلخ. وهذه خطة لإعلان الحرب على أطراف كثيرة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. روسيا وإسرائيل هما الدولتان الوحيدتان اللتان عبر ترامب عن مشاعر ودية تجاههما إبان حملته الانتخابية، فالرجل لا يرى روسيا عدواً للولايات المتحدة بالضرورة، وإنما شريكاً محتملاً في الحرب على الإرهاب، وقد عبَّر في أكثر من مناسبة عن إعجابه برئيسها بوتين. أما إسرائيل فقد كرر ترامب التزامه المطلق بأمنها واعتبر نشاطها الاستيطاني شرعياً ولا يشكل عقبة في طريق التسوية، كما اعترف بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل ووعد بنقل السفارة الأميركية إليها. ولتأكيد أن تصريحاته ليست مجرد وعود انتخابية لإسرائيل أعلن أنه ينتظر حفيداً يهودياً وعبَّر عن شعوره بالسعادة إزاء المولود الجديد.
أثار انتخاب ترامب ردود فعل غاضبة داخل وخارج الولايات المتحدة، فقد خرجت تظاهرات عارمة في المدن الأميركية الكبرى رافعة شعار «ترامب ليس رئيسنا»، وهو أمر لا سابقة له في التاريخ الأميركي، وجاء بعض ردود الفعل الرسمية في دول أوروبية متحدية ومشككة في أهلية ترامب لقيادة النظام العالمي، ولهم بعض العذر. فهيلاري كلينتون هي في نظر الكثيرين الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات لأنها حصلت في التصويت الشعبي على أكثر مما حصل عليه ترامب (61.8 مليون صوت بنسبة 50.4 في المئة من إجمالي أصوات الناخبين في مقابل 60.8 بنسبة 49.6 في المئة لدونالد ترامب). ولأن النظام الانتخابي في الولايات المتحدة، والذي لا يتوقع أحد تغييره رغم كل الانتقادات الموجهة له، لا يعتد إلا بأصوات المجمع الانتخابي، يرى كثيرون أن المشكلة الحقيقية لا تكمن فيه بقدر ما تكمن في النظام السياسي نفسه والذي أصبح عقيماً إلى الدرجة التي تجعله يبدو عاجزاً عن إفراز قيادات مؤهلة لمجابهة تحديات الداخل والخارج في مرحلة حساسة من مراحل تطور النظام العالمي.
إن دلَّت نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة على شيء فعلى أن المواطن الأميركي فقد ثقته تماماً بالمؤسسات الرسمية، ويتطلع إلى تغيير جذري في المؤسسات وفي السياسات على حد سواء. ومن سوء حظ الجميع أن النظام الأميركي لم يفرز، على رغم عراقة تقاليده الديموقراطية، سوى هيلاري كلينتون ممثلةً للشرائح المتمسكة بالاستقرار والاستمرارية، ودونالد ترامب ممثلاً للشرائح الرافضة الاستسلام للأمر الواقع والطامحة نحو التغيير. ومن المعروف أنه سبق لهيلاري أن شغلت مناصب رسمية متنوعة على مدى ما يقرب من ثلث قرن. ولأن مسيرتها السياسية عكست طموحاً بلا حدود تم تحقيقه عبر التضحية بقيم إنسانية نبيلة، فقد بدت كتجسيد حي لكل ما يعتمل داخل الأجهزة الرسمية الأميركية من فساد وانتهازية. أما ترامب، فقد بدا وكأنه يمثل الوجه الآخر للعملة الأميركية أصدق تمثيل، فهو رجل أعمال ثري، متمرد ليس فقط على النظام الأميركي كلاً ولكن على قيادات حزبه الجمهوري نفسها، لم يسبق له أن شغل أي منصب رسمي بالتعيين أو بالانتخاب. ولأنه شخصية ديماغوجية بحكم تكوينه وتاريخه، فقد بدا أقرب ما يكون إلى المهرج السياسي منه إلى رجل الدولة واستطاع من ثم أن يوحد كل الرافضين للنظام ولسياساته التقليدية، الجمهورية منها والديموقراطية على السواء، وهي السياسات التي ينظر إليها باعتبارها المسؤولة عن التدهور الحالي في مكانة الولايات المتحدة. يعتقد كثيرون، وأنا منهم، أن انتخاب ترامب رئيساً لأقوى دولة عرفها التاريخ يمثل انتكاسة خطيرة لقيم إنسانية نبيلة ناضلت البشرية في سبيلها، ومن ثم تتعين مواجهته والعمل على إفشال مشروعه. غير أني لا أعتقد أن هيلاري كلينتون كانت تمثل خياراً أفضل، فربما يكون من مصلحة العالم أن يتعامل مع رئيس أكثر شفافية ولديه الجرأة للبوح بحقيقة ما يبطن، حتى لو كان فجاً، بدلاً من رئيس يرتدي قناعاً ويجيد المناورة والتخفي وراء شعارات، شريطة أن يرتفع الآخرون إلى مستوى التحدي. ويكفي أن نتذكر ما فعله بوش الابن بالعراق لندرك أن المؤسسة الرسمية الأميركية قادرة على إفراز ما قد يكون أسوأ من ترامب. لست متأكداً من أن العالم، على رغم حدة ردود الأفعال على السطح، بات جاهزاً لمعركة حقيقية مع ترامب، ولذا أتوقع أن تسقط أقنعة كثيرة قريباً. وللأسف، فإن بعض العرب رحبوا بفوز ترامب، ربما بدافع الكيد لعرب آخرين يناصبونهم العداء أو يتعاملون معهم بعنجهية، اعتقاداً منهم أن بمقدورهم أن يكونوا حلفاء بدلاء لأشقائهم الأعداء، وهذا وهم كبير. فلن يكون لترامب صديق آخر في المنطقة سوى إسرائيل. فترامب يؤمن بأن إسرائيل ولدت تصديقاً لوعد إلهي، ومن ثم تقع على الولايات المتحدة مسؤولية حمايتها وتمكينها، هي أقرب ما تكون إلى تكليف إلهي منه إلى خيار سياسي رشيد. من هنا قناعتي التامة بأن ترامب سيبذل كل ما في وسعه لتمكين إسرائيل من تصفية القضية الفلسطينية، عبر توظيفه للخلافات العربية- العربية، ولدفع أكبر عدد ممكن من الدول العربية لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، من دون اشتراط الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، تحت شعار التحالف في مواجهة الإرهاب. فانتبهوا أيها السادة.
حسن نافعة
صحيفة الحياة اللندنية