تمثل هذه المناقشة استمرارا لسابقتها التي حاول فيها الخبراء تقديم تصور حول المشهد السياسي الراهن. ومن الواضح من واقع المناقشات أن الحدث الأهم والبارز هو الاحتفال بثورة يناير، وما ترتب عليه من أحداث، سواء ما يتصل بخروج حزب التحالف الشعبي بمظاهرة محدودة العدد، يحمل أعضاؤها الزهور، وأسفر عنها سقوط شيماء الصباغ شهيدة، أو أحداث المطرية التي سقطت فيها أعداد من المصريين سواء من جانب المشاركين في المظاهرة الإخوانية، أو من الشرطة.
وهكذا يواصل الخبراء التنبيه والتحذير من مغبة الإصرار على سياسات نظام الإخوان، من إقصاء الأصوات المعارضة، واتباع سياسات الليبرالية الجديدة المناوئة لطموحات واحتياجات الفقراء والمهمشين، وفض التحالف الوطني الواحد لبناء وطن حديث يعبر عن تاريخ طويل من الحضارة البازغة، لبلد اخترع الكتابة، وبدأت فيها مشاعل التقدم والرقي والتحضر، بينما كان يعيش الآخرون في جهالة.
وقد اعتبر الخبراء هذا المشهد تعبيرا عن أزمة يمر بها المجتمع المصري، أزمة كان ينبغي أن تديرها كافة الأطراف القائمة إدارة حكيمة، تفيد الصالح العام، لا صالح قلة قليلة تستحوذ على مقدرات الوطن وتسعى لتخريبه. وقد أسفر النقاش عن تحديد عناصر أساسية، تمثل أركان المشهد، وهي مؤسسة الرئاسة، والإعلام الرسمي والخاص، والقوى الشبابية، وجماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسي، والمؤسسات الوسيطة من الأحزاب السياسية والمراكز البحثية. وقد حاول الخبراء التعريف بدور كل عنصر من هذه العناصر، سواء في تدشين المشهد وتأزيمه، أو مواجهته. وهو ما نتبينه على النحو التالي:
أولاً: دور مؤسسة الرئاسة
لعل أولى السمات اللافتة للنظر في المؤسسة الحاكمة هي بطء ردة فعلها على الأوضاع السياسية الراهنة. فمؤسسة الرئاسة تتعامل مع الموقف دون رؤية واضحة، رغم ما يعرض عليها من تصورات ورؤى لإدارة الأزمات الحالية من جهة المراكز البحثية المتخصصة، وهو ما ينعكس أيضا في عدم مهنية تعامل الشرطة مع تظاهرة حزب التحالف الشعبي محدودة العدد.
إن طريقة تعامل السلطة الحاكمة مع الحدث قد جاء مختلا، وتتسبب في تفكيك التحالف الوطني القائم منذ الثورة. إذ لا يمكن مقارنة خطبة الرئيس التي أحاط نفسه فيها بعدد من أبناء ضحايا الأحداث الإرهابية من الشرطيين، فيما يكتفي بكلمة موجزة قصيرة يبثها عبر الأثير، ونصف الكلمة كان موجها لتعزية الملك عبد اللـه. وبدا الأمر وكأن المؤسسة الحاكمة قد استغلت حادث التعزية للتغطية على الحدث الرئيسي للاحتفال بثورة يناير. بينما كان بإمكانها التأجيل، حتى لا تثير حفيظة الشباب والقوى الثورية والشارع نفسه.
ومن الملاحظ أن الحل الأمني لم يستطع أن يحل الأزمة. والأجدى اللجوء لفتح أفق أوسع من خلال اللجوء للعدالة الانتقالية. خاصة وأن اللجوء لها أمر ضروري وحتمي في ضوء الدستور الجديد الذي ينص على ذلك. وفي هذا الصدد، صرح تشومسكي أن الأوضاع الحالية تنبئ بثورة جديدة، فقد عرضت الدولة المصرية على الإخوان المصالحة عبر مجلس الوزراء تارة، ومن خلال الرئيس السيسي تارة أخرى، ورفضت الجماعة ذلك. وتناقلت وسائل الإعلام الغربية التصريح، فبدت الدولة أضعف من الجماعة التي تستطيع أن تفرض وتملي إرادتها على نظام السيسي.
ثانياً: دور المؤسسات الوسيطة
تلعب المؤسسات الوسيطة دورا هاما في لحظات الأزمات، وخاصة إذا لم تستطع المؤسسات الحكومية أن تتجاوب معها. وفي المشهد الحالي، نجد الأحزاب والمراكز البحثية وأندية الشباب، كمؤسسات وسيطة، غائبة عن المشهد، غيابا لا تنكره العين. فلم تقدم أي أنشطة، يمكن من خلالها استيعاب الشباب ودمجهم في العملية السياسية، كأن تقيم الاحتفالات والمؤتمرات، لتكون سبيلا للتنفيس والتعبير عن الفرحة بالثورة، وعما لديهم من غضب بشأن الوضع القائم، إن وجد.
إن الأحزاب السياسية في الواقع أثبتت انتهازيتها، فلم تهتم بالثورة والاحتفال بها، وأدارت حوارا من أجل بناء قائمة واحدة للانتخابات، ولم تستطع أن تعبر عن نفسها وفاعليتها عبر المؤشرات التي يمكن من خلالها قياس حضورها داخل المجال السياسي، فليس لديها ما يوحي بقدرتها على القيام بعمل مؤسسي يدير الاختلافات، وليس القدرة على الحصول على مقاعد داخل البرلمان، إذ لم تستطع غالبيتها أن تكمل قوائمها للمنافسة في الانتخابات البرلمانية، وكلهم دون استثناء لم يناشدوا فقط أعضاء الحزب الوطني السابقين، بل لجأوا لرجال الأعمال. ولدينا أكثر من ثلاثين حزب منها من مجموع 94 حزب، تحت قيادة رجال الأعمال. والحزب الوحيد الذي لديه القدرة على القيام بمثل هذا هو حزب المصريين الأحرار، الذي يرفع شعار معا نحارب الفقر، ويترأسه رجل أعمال يديره كما يدير شركة وليس حزبا. ومن جهة أخرى فإن الحزب المشارك في التظاهر، لأنه شارك فيها وهو في الأصل في تحالف 30-6، ومخالفا لقانون التظاهر، الذي ينص على عدم التظاهر دون الحصول على ترخيص، وإمكانية رفض التظاهر، وفقا للمادة العاشرة منه إذا كانت هناك دواع أمنية تحول دون التظاهر، وتضر به. بل واستغل الحزب الحدث للتعبير عن قدرته على النضال، والترويج لذاته، في استغلال لدماء الشهيدة الطاهرة.
“أثبتت الأحزاب السياسية انتهازيتها، فلم تهتم بذكرى الثورة والاحتفال بها، وأدارت حوارا من أجل بناء قائمة واحدة للانتخابات”
وكان نتاج ذلك الغياب الحزبي أن استطاعت جماعة الإخوان أن تستغل الموقف وتستفيد منه في استقطاب القوى الشبابية والثورية، والاستفادة من سياستها المعتادة، سياسة اللعب على الأطراف، اللعب على هوامش المجتمع الفقيرة، التي لا تشعر بأي منجز أنجزته الحكومة الحالية، في ظل غياب العدالة الاجتماعية. ولعل اختيار الجماعة لمنطقة المطرية بالتحديد أمر له أسبابه. فالمنطقة عشوائية وفقيرة كما هو معروف، وترتفع فيها نسبة الجريمة وتجارة المخدرات، وتتوفر على أماكن يصعب على البوليس دخولها، فهي أماكن منيعة، يسكنها المجرمون الذين ربما شاركوا الإخوان والمتظاهرين في مقاومة الشرطة التي أمطرتهم بالغاز والقنابل المسيلة للدموع، فيما البلاد تنفجر فيها قنبلة هنا وهناك، وتتعطل أحوال الناس، بقطع الطرق، وتهديد حياتهم.
ثالثاً: دور الإعلام
في الواقع كشف الإعلام عن وجهه المعارض لثورة يناير والرافض لها، فهو يحتفل بعيد الشرطة، ناسيا عن عمد ثورة يناير والاحتفاء بها، فيما قام بتغطية حادث وفاة الملك عبد اللـه بطريقة مبالغ فيها. وتم التعامل مع حدث الاحتفال بالثورة على نحو يتم فيه تعمد تغييبه، حيث حرصت القنوات على وضع “تتر” يحكي أحداث الثورة، فيما يهتم البث بـ”عيد الشرطة” وما حدث في الإسماعيلية من نضال الشرطة في مواجهة الاحتلال البريطاني. فيما تظل الأصوات التي تسخر من الثورة، أو تشهر بالشخصيات الوطنية وتهاجمها. إذ لا تزال نبرة الخطاب الإعلامي نبرة لا عقلانية، لا تعتمد على الحوار العلمي العقلاني الموضوعي، بل تعتمد الإشاعات والهمز واللمز والإساءة للأفراد، دون روح حقيقية لبناء الوطن. وهذا طبيعي في ظل أن هذه المنصات الإعلامية تسيطر عليها نخبة من رجال أعمال حباها نظام مبارك ببركاته.
بينما على الطرف الآخر نجد دور الإعلام الخارجي المحرض، وبالتحديد قناة الجزيرة التي أصبحت أكثر ضراوة في هجومها على مصر، من خلال عدد من الفاعليات، حيث أعدت برامج مخصصة لذكرى الثورة، وبثت فيديوهات من أحداثها، وليس فقط من أحداث اللحظة الراهنة، واستضافة عدد كبير جدا من قيادات جماعة الإخوان، أو من المتعاطفين معها بشكل كبير، أو من شباب حركة السادس من إبريل، أو من شباب الثورة الذين اتسعت المسافة بينهم وبين شركاء تحالف 30/6. فتحولت الجزيرة مباشر العامة إلى الجزيرة مباشر مصر.
رابعاً: القوى الشبابية
من الواضح أن قوى الشباب ليست منسجمة، وغير قادرة على حسم موقفها من الوضع الحالي، فهناك فريق ينحاز للجماعة، وهم أبناء الجماعة، وباقي الشباب غائب وغير فاعل في المشهد السياسي.
ويمكن تقسيم قوى الشباب إلى ائتلاف شباب الثورة كقوة رئيسية انقسمت إلى عناصر متحالفة مع الإخوان المسلمين أو جزء منها، يخرجون في تظاهرات الجماعة أو يدافعون عن مواقفها في الخارج، وعناصر اندرجت في الأحزاب، وتم استبعادها من المشهد الإعلامي عن عمد، ولم يسمح لها بالظهور أو إلقاء الضوء عليها، وعناصر أخرى يمكن تسميتها بقوى النقاء الثوري، التي عادت للعمل داخل مؤسساتها، كالأكاديميين، وبعضهم شارك في مبادرات تهتم بالمجتمع، مثل مبادرة الفنان محمد صبحي لمواجهة ظاهرة العشوائيات. أما حركة السادس من إبريل فقد انقسمت لتيارين أحدهما مع النظام الحالي، والطرف الآخر مع الإخوان، الذي ذهب أطرافه إلى المطرية للوقوف مع الجماعة في مظاهراتها. فيما انقسمت حركة تمر إلى جزأين: أحدهما تحت قيادة محمود بدر، الذي أخذ يشكل حزبا باسم الحركة، ورفض طلب التشكيل بحكم قضائي، وجزء آخر تحت قيادة محمد عبد العزيز وآخرين انضوى في التيار الشعبي مع السيد حمدين صباحي. وما زالت بعض التكتلات الصغيرة التي تعمل تحت مظلة تحالف القوى الثورية. فيما تفككت العناصر الأساسية المكونة لحزب العدل (وهو حزب شبابي)، وتباينت بهم الطرق لمسارات متنوعة، ما بين الانضمام لأحزاب أخرى، أو الدخول في قائمة السيد مصطفى عبد الجليل المسماة بـ”صحوة مصر”. فيما الأحزاب وارت صورة الشباب الموجود داخلها، فيما عدا حزب الدستور الذي يعتمد على الشباب كقوة أساسية داخله.
وهناك حزب شبابي تشكل تحت اسم “شباب المستقبل”، وللحزب أكثر من ستة عشرة مقرا، وهو يعمل بشكل جاد، ويشارك في فاعليات وزارة الشباب، ويقال إن بعضهم من أعضاء الحزب الوطني، ويحصلون على تمويلهم من اشتراكات الحزب، وبعضهم رجال أعمال. باختصار لا يوجد تكتل واحد جامع يجمع أطراف الشباب معا، كما كانت الحال قبل 30 يوليو.
خامساً: جماعة الإخوان
منذ سقوط الرئيس محمد مرسي، والجماعة تناضل من أجل العودة بكل الطرق الممكنة، سواء بالتظاهر، أو الاستعانة بعلاقاتها الخارجية ببعض الدول المؤيدة لها، كقطر أو تركيا، أو بتقديم مسوغات لقواعدها الشعبية لممارسة الإرهاب “الصغير” عبر استخدام عبوات بدائية، أو للجماعات المتطرفة في سيناء التي لا تكف عن قتل الجنود. بل إن الجماعة جيّشت قواها الإعلامية للحديث عن ثورة ثالثة، والسعي جاهدة لتشكيل شروط إنتاجها، من خلال الوقيعة بين الأطراف المشكلة للتحالف الوطني الذي خاض النضال ضد الجماعة في 30/6، أو غلق باب الأمل أمام المصريين بالحديث عن فشل وعجز الحكومة عن مواجهة الأزمات الاقتصادية، أو تناول ملف الحريات.
لكن الملاحظ، برأي أحد الخبراء، أن الجماعة لا يمكنها أن تحمل في يدها مخاض ثورة جديدة، فليس لديها المقومات الاجتماعية والثقافية لكي تقوم بذلك. فالسلوك التي تنتهجه الجماعة هو سلوك تدميري ضد المجتمع، وليس فقط ضد النظام السياسي، فكل أعمال التخريب من حرق أبراج الكهرباء، إلى حرق وسائل مواصلات ومقار مجالس المدن. وبذلك يورث مزيد من الكراهية من جهة القوى المجتمعية. فالأحداث الجارية تبعد الجماعة عن بؤرة الضوء، وعن التعاطف الشعبي نحوها. فهناك خطاب اجتماعي ضاغط يدفع بعدم المصالحة، فالمصريون لن ينسوا ما قامت به الجماعة من أعمال تخريبية أضرت بحياتهم اليومية. ففي إحدى مدن الدلتا، وصل حجم الخسائر إلى أربعين مليون جنيه، نتيجة تدمير أبراج كهرباء.
“لا يمكن لجماعة الإخوان أن تحمل في يدها مخاض ثورة جديدة، فليس لديها المقومات الاجتماعية والثقافية. فالسلوك التي تنتهجه الجماعة هو سلوك تدميري ضد المجتمع”
إن نقط التوتر كما هي. فمدن دمنهور وإسكندرية وبعض المناطق الهامشية في القاهرة (المطرية وعين شمس)، وفي المنيا، وهي مناطق الظهير الإخواني. علاوة أن بعض المناطق كالمطرية ساعدها الوضع الجغرافي على أن تكون نقطة تلاقي لعناصر إخوانية، من مدن الإسماعيلية والشرقية والقليوبية. بينما هناك مدن أخرى لا تشارك في المظاهرات مثل أسيوط وقنا وأسوان، وغيرها من مدن الصعيد، بما يدلل على انحسار دورها.
بل وبات الحديث عن محاولة دمجها أو مصالحتها غير واردة بسبب نهجها المتطرف في التعامل مع الأحداث، بمزيد من القتل والتقتيل، وإثارة أفرادها للقلاقل والمشكلات والأزمات داخل أماكن العمل، ورفض الجماعة الوصول إلى نقطة تصالح ورغبة في الاندماج.
فالعمل على إدماج الجماعة في الشرط السياسي الراهن، مسألة عسيرة المنال، بسبب من عدم قدرة أفرادها على إدراك خسارتها لتعاطف المصريين وغضبهم، وهو ما يعني أن الجماعة ستحتاج لوقت طويل لتدرك أخطائها، وتدخل في اعتراف حقيقي بها، وأن تسعى لرأب الصدع، وتجري مراجعة شاملة لأفكارها ولخطابها السياسي والديني، ولأهدافها وآليات التوصل لها.
ولعل الشرط الرئيسي لصناعة المصالحة ورتق النسيج الوطني يتمثل في قدرة النظام على أن يكون معبرا بحق عن الثورة. وهو ما لا نجده واضحا في الممارسات العملية للنظام الحالي. فهناك أطراف كثيرة بدأت في الانفصال عن تحالف 30/6. ولا يحاول النظام الحالي أن يعمل بقوة على وحدة الصف. ودليل ذلك أن الرئيس وعد بالإفراج عن شباب الثورة في يوم الاحتفال بالثورة، إذ بالشعب يفاجأ بالإفراج عن نجلي الرئيس المخلوع حسني مبارك. ولم يستطع النظام تلبية المطالبة الشعبية بضرورة تطهير الشرطة التي عادت أقسى وأشرس مما كانت عليه أيام مبارك. كذلك على مستوى مطلب العدالة الاجتماعية، يجد الناس أن ممارسات النظام في صالح الأغنياء على حساب الفقراء. علاوة على عودة البيروقراطية الفاسدة وبقوة، إذ لا تزال العمولات والرشاوى قائمة، ولا يوجد مواجهة حقيقية للفساد الذي يحول دون تقدم البلاد وازدهارها، كما لا يوجد حرص على بناء برلمان حقيقي، يأتي من رحم معاناة الجماهير التي تعاني الفقر والغلاء والفساد. فليس معقولا أن يصرح الرئيس بأن البلاد تخلو من القيادات والكوادر القادرة على العمل كمحافظين، بينما القيادات والشخصيات الوطنية المؤمنة بالثورة موجودة بكل مكان في بلدنا. وهو ما قد يفتح الباب أمام ظنون يخشى أن تشكل رأيا عاما مضادا للنظام.
د. محمود أحمد عبد الله
المركز العربي للبحوث والدراسات