أياً يكن موقف المرء من الأفعال النكراء لتنظيم «داعش» في العراق وسوريا وليبيا ومصر وسواها، وأدواره التخريبية والتدميرية للدول والمجتمعات التي وطئتها أقدام جيوشه، وأياً تكن الاستفهامات عن ارتباطاته السياسية والمالية بالدول الغربية الكبرى، وبعض دول الإقليم (على رأسها تركيا)، وما تلقاه منها من مساعدات لوجستية وتغطية سياسية مكنته من التوغل عميقاً في المجال العربي، فإن الذي لا مِرية فيه أن التنظيم هذا، ولد ونما في بيئتين سياسيتين تخريبيتين، وتغذى من معطياتهما بل أتى نتيجة من نتائجهما المرة هما: الاحتلال والنظام الطائفي المذهبي الذي تولد، بدوره، من الاحتلال في العراق. وهكذا، لن يكون من وجه حجة لأي تحليل لظاهرة «داعش»، إن هو لم يقارب جذور المشكلة وأصولها (الاحتلال والمذهبية)، كما لن يكون من وجه شرعية لإدانة التنظيم وحده بمعزل عن إدانة العوامل والأسباب التي أنجبته. ونحن في هذا الذي نذهب إليه، لا ندافع عن «داعش» أو نلتمس له الأعذار والمسوغات، وإنما نحاول أن نقرأ ظاهرته قراءة موضوعية تردها إلى عوامل التكوين، رافضين النظر إلى الأعراض بوصفها أسباباً، أو متسترين على الأسباب تلك، مثلما يفعل الأكثرون!
من النافل القول، ابتداءً، إن بين الاحتلال (الأمريكي- البريطاني) للعراق والنظام الطائفي- المذهبي، الذي قام فيه بعد عام 2003، جامعاً مشتركاً يشد هذا إلى ذاك. والجامع هذا ليس متجسداً في واقع أن الاحتلال أتى يشكل علةً وسبباً لنشوء النظام الطائفي- المذهبي في العراق وبيئةً خصبةً لذلك النشوء والتطور فحسب، وإنما يتجسد (الجامع) في كونهما معاً نقضاً للدولة الوطنية العراقية وتدميراً لها وتفتيتاً للوحدة الوطنية وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي والكياني وتفسيخاً له. إنهما معاً وجهان للعملة عينها.
من النافل القول، إن تضافراً وتشاركاً بينهما قام واشتغل. ولا يتبين التضافر والتشارك بينهما وقائعياً، فحسب، بل يتبين وظيفياً أيضاً وأساساً، إذا كان ذلك واضحاً على الصعيد الأول (الوقائعي) في كون المتعاونين العراقيين مع الاحتلال هم من استلموا السلطة منه، بعد أن هندسوا معه، منذ أيام بول بريمر، نظاماً سياسياً لبلادهم قائماً على الاحتصاص (المحاصصة) المذهبي والإثني، فهو أوضح في أن الاحتلال والمذهبية يخدمان بعضهما باستمرار، يحتاج المشروع الطائفي والمذهبي إلى آلة الاحتلال لتدمير الدولة الوطنية من أجل إعادة تركيبها على أسس من التمثيل مختلفة (طائفية ومذهبية)، حيث الدولة هي العدو الأكبر للطائفة وللمذهبيات والعصبيات (والمثال اللبناني يشهد)، وحيث لا قيام لهذه إلّا بإضعاف الدولة، ويحتاج الاحتلال إلى المذهبية والمشروع المذهبي في مراحل فعله كافة.
إذا كان تنظيم «داعش» نتيجةً من نتائج تدمير الدولة الوطنية في العراق، وتجسيداً للفراغ والفوضى اللذين تولدا من ذلك التدمير، فإن النتيجة تلك أفصحت عن نفسها في صورتين متناسبتين ونوع القوى التي أسفرت الغزوة الكولونيالية عن سيطرتها على الأوضاع وعلى السلطة في البلد، والصورتان تيناك (اللتان يتبدى فيهما فعل «داعش» السياسي) هما: مواجهة الاحتلال، ابتداءً، ثم الانخراط في حرب طائفية ومذهبية ضد القوى التي تسلمت السلطة من الاحتلال. لم يكن «داعش» حينها سوى «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، ولم يكن له من وجود أو فعل قبل الغزو الأمريكي- البريطاني للعراق. ولذلك اشتبك، أول ما اشتبك، مع المحتل، لكنه وجه ضربات إلى المتعاونين مع المحتل في الوقت عينه، وإن لم تخل من أغراض مذهبية يدلنا عليها اعتداؤه على الرموز الدينية، من مراقد وحسينيات، ناهيك بالقتل الجماعي العشوائي لقسم من العراقيين المحسوبين على مذهب بعينه. غير أن «جلاء» الاحتلال الأمريكي عن العراق، وأيلولة السلطة في البلاد إلى القوى المتعاونة معه (من الملل والنحل كافة)، وإقامة النظام على مقتضى الاحتصاص المذهبي والإثني، وذهاب النخبة الحاكمة في سياساتها المذهبية إلى حدود من الشطط والعقاب الجماعي والتهميش، قدمت للتنظيم (الذي صار اسمه «الدولة الإسلامية في العراق» ثم «الدولة الإسلامية في العراق والشام») الذرائع الكافية لفتح المعركة على النظام القائم: على «جيشه» وميليشياته المذهبية. وهكذا انتقلت حربه من حرب على الاحتلال إلى حرب على النظام المذهبي، ولكن، أيضاً، بمضمون مذهبي رديف!
ساعد تنظيم «داعش» على خوض الحرب المفتوحة تلك، والتمدد خارج رقعة نفوذه التقليدية، أنه وجد بيئة اجتماعية حاضنة من قاعدة شعبية عريضة تضررت مصالحها من السياسات المذهبية التمييزية المتبعة من النخبة الحاكمة، خاصةً في العهد البغيض لنوري المالكي (سياسات النهب والفساد والتهميش والعقاب الجماعي لكل البيئات الاجتماعية التي اعتبرت قاعدةً للنظام الوطني السابق في العراق). من «المفارقات» أن البيئة الاجتماعية تلك، الحاضنة ل«داعش»، هي عينها التي كانت، إلى عهد قريب، البيئة الحاضنة لقوى المقاومة الوطنية العراقية في معركتها ضد الاحتلال الأمريكي. لكن المفارقة في المسألة ترتفع متى أدركنا أن التلازم قائم بين الاحتلال والنظام الطائفي (المذهبي)، وأن المتضررين من الأول، هم عينهم المتضررون من الثاني، بما هو ثمرة مرة من ثمراته، وحلقة أخرى من حلقاته. وهكذا، على الأقل، هي المسألة في واقعها الفعلي منظور إليها من زاوية الترابط الماهوي بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية – السياسية. ولقد تكون البيئة الاجتماعية الحاضنة للقوى المناهضة للاحتلال والمذهبية أدركت شيئاً من ذلك الترابط. ولكن بينما تصرفت تصرفاً وطنياً في احتضانها المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، تصرفت، على العكس من ذلك، تصرفاً خاطئاً في احتضانها «داعش» أداةً للرد على المشروع الطائفي والمذهبي، لأن المذهبية لا يُرد عليها بمذهبية رديف، بل لا يُرد عليها إلّا بما رُد به على الاحتلال، أعني: بمشروع وطني.
عبدالإله بلقزيز
صحيفة الخليج