الفساد والتخبط الاقتصادي الذي مارسته الحكومات المتعاقبة على العراق منذ 2003 بشتى إشكاله ومجالاته هو أكثر جشعا وفتكا واستشراء باقتصاد البلد من الاحتلال الفعلي المباشر.
وتبرز خطورة هذا الفساد بطلب العراق الاستدانة من صندوق النقد الدولي؛ لمعالجة العجز في ميزان مدفوعاته من جهة وإغراق الاقتصاد العراقي بديون وتبعية اقتصادية لا تنتهي من جهة أخرى؛ ما يضطر العراق الى فتح أبواب اقتصاده على مصراعيه أمام التدخلات، والتحكم من قبل الشركات الكبرى التابعة لصندوق النقد الدولي، الذي ستتحمل الأجيال القادمة عبء المديونية.
وفي السياق ذاته وقعت الحكومة العراقية على ما يعرف باتفاق التدابير الاستعدادية مع الصندوق؛ بسبب النقص الحاد والعجز في ميزان المدفوعات العراقي في ظل الازمات المالية، والفساد الخانق للاقتصاد والهدر بالمال العام للدولة، وهذه التدابير تمثل برنامجا يشرف عليه الصندوق بمساعدة البنك الدولي؛ لمساعدة البلدان الأعضاء فيهما، والتي تواجه تلك الأزمات .
نشأ صندوق النقد الدولي مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين، اذ اجتمع عام 1944 ممثلو 44 دولة في مؤتمر عقد في بريتون وودز بالولايات المتحدة الاميركية، حيث وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة، وإزالة العقبات على المدى الطويل بشأن الإقراض والتجارة الدولية، وإعادة أعمار أوروبا .
وخرجوا من المؤتمر باتفاقية بريتون وودز، التي مهمتها الأساسية الإشراف على النظام النقدي الدولي وتقويته وتقديم المشورة لأعضائه بشأن سياساتهم الاقتصادية، وتقديم قروض للدول الأعضاء، ومراقبة تدويرها.
ويحصل الصندوق على أمواله من البلدان الأعضاء، وتبعًا لحجم الحصص يتحدد عدد الأصوات المخصصة لكل بلد عضو في الصندوق، وحدود الاقتراض الذي يوفره له الصندوق، وكلما ازداد حجم اقتصاد البلد من حيث الناتج، ازدادت حصته في الصندوق، فالولايات المتحدة الأميركية، التي تعد أكبر اقتصاد في العالم، وتسهم بالنصيب الأكبر في صندوق النقد الدولي تبلغ حصتها فيه 17.6% من إجمالي الحصص،
ولا يمكن فصل عمل البنك الدولي الذي يعمل على تنمية الدول النامية، ومحاربة الفقر وتطوير النظم المالية للدول الأعضاء عن عمل صندوق النقد الدولي، فهما يعملان بالتوازي والتعاون، ويرتبطان بشكل عضوي ، ولكي تصبح أي دولة عضوًا في البنك الدولي يشترط لها أن تكون عضوًا في صندوق النقد الدولي أولًا.
وحيث ان صندوق النقد الدولي يعمل كمظلة أمان وحماية للممولين الدوليين اذ بإمكانهم ان يقرضوا أموالهم دون حذر او قلق متى شاءوا عند توفر السيولة لديهم، ويضمن الصندوق السداد لهم مهما تكون الظروف والنتائج، علما أن هذا يناقض مبدأ السوق الحر، الذي ينص على:” يتحمل المقرض والمقترض جزءا من المسؤولية جراء اتخاذ قرار الإقراض”؛ ما يعني ان الممولين يحققون المكاسب والأرباح تحت كل الظروف، بينما يدفع المقترض الثمن الباهض في حالتي الخطأ والصواب،(نذر العولمة/ عبد الحي يحيى زلوم).
وفي أيار/ مايو 2016 وافق صندوق النقد الدولي على منح العراق قرضا قيمته 5.4 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات، وكانت قيمة أول دفعة من القرض 600 مليون دولار، والحقيقة المؤسفة ان يتم تطبيق برنامج إقراضي على دولة نفطية، فكيف إذا كانت هذه الدولة من أغنى دول العالم كالعراق؛ وذلك ما يثير الشكوك حول مسألة الاقتراض .
ان الفساد المالي والإداري والأزمات المالية في العراق أنهكت اقتصاده فبسبب انخفاض أسعار النفط خسر العراق 85% من قوة اقتصاده؛ لاعتماده بشكل رئيس على النفط، ما تسبب بشل الحركة الاقتصادية فيه، “لان العقلية الريعية التي تعمل بها الحكومة تعتمد على بيع النفط الخام، ومبدأ تعظيم العوائد المالية بعيدا عن تحقيق معدلات نمو التنمية المستديمة، ويعد هذا قصورا واضحا لدى النظام السياسي ونقصا في الخبرة حول كيفية إدارة الحياة الاقتصادية وإصلاحاتها وإدارة أزماتها، وعدم مواكبة التطورات التي تحدث في البيئة الاقتصادية والسياسية والثورة التكنولوجية محليا وخارجيا؛ ما خلق تلك الازمات، لذا كان من الضرورة قيام المعنيين بإدارة الاقتصاد الكلي، بمجموعة من الإجراءات أهمها تقييم الاحتياطيات الدولة من العملات الأجنبية والدين العام ، بعد تقييم المالية العامة ومعرفة مدى توفر الموارد المالية للاستثمار، مثلما يجب ان يكون هناك ترتيب للأولويات التي من شأنها تحقيق الإصلاحات الاقتصادية، وكل هذه الأسباب وغياب القرار الاقتصادي لمعالجة أزماته انعكست سلبا على الوضع الاقتصادي وأوصلت الحكومة للاستدانة من صندوق النقد الدولي.
كشف المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح ان قيمة القرض تبلغ 5.4 مليار دولار.
و انّ الفائدة على هذا القرض لا تتعدى نسبتها 1.5% سنوياً.
ويُفترض أن يساعد هذا القرض على تعزيز الجدارة الائتمانية للعراق، فيما انتقدت اللجنة المالية النيابية اقتراض العراق من صندوق النقد وتركه الفساد ينخر بدوائر الدولة.(ذي قارنا الاخبارية )
وقد وضع صندوق النقد الدولي عدة شروط على إقراض العراق بينها إشرافه على تدقيق الحسابات للمؤسسات المالية العراقية، وتخفيض المنافع الاجتماعية، وعدم المساس برواتب الموظفين الصغار، باستثناء موظفي الدرجة الثانية والأولى الذين هم بدرجة مدير عام فما فوق، و فرض حساب ضريبي عليهم.
وقسط الصندوق القرض الذي منح للعراق الى 17 دفعة على ان يراقب بعد كل دفعة آلية سد الثغرات الاقتصادية من قبل العراق، ما يعد ذلك دليلاً واضحاً على أن صندوق النقد يشكك بمصداقية السياسات التي اتبعتها الحكومات العراقية المتعاقبة طيلة السنوات السابقة بعد 2003.
ونتيجة لهذا الفساد تراجعت العائدات؛ ما اسهم في ارتفاع عدد الفقراء في العراق لأكثر من 10 ملايين إنسان في حين أن البلاد تشهد موجة نزوح كبيرة تجاوزت 4 ملايين عراقي يعانون انعدام الخدمات أو أي فرصة للعيش الكريم، واتساع الفجوة المالية بين النفقات والإيرادات إلى 50 مليار دولار بحسب مصادر حكومية عراقية.
و قد سجل ﻣﻳزان اﻟﻣدﻓوﻋﺎت ﻋﺟزاً يتم تمويل قسم منه باستخدام الاحتياطي الاجنبي الذي اﻧﻛﻣش بـنسبة 13% في نهاية سبتمبر 2015 بحسب صندوق النقد الدولي وإقرار الحكومة العراقية بذلك.
ولاحظ خبراء صندوق النقد الدولي الملاحظات التالية على السياسات الاقتصادية في العراق :
1-عدم وجود انضباط في المالية العامة للدولة العراقية معربين عن خيبة أملهم كون عملية تخصيص الموارد النفطية تتم على أساس اعتبارات سياسية، وليست اقتصادية علمية.
2-المصارف الكبيرة في الاسم والحجم تعاني ــ بحسب خبراء صندوق النقد الدولي ـــ نقصا شديدا في رأس المال، فمصرف الرشيد لديه نصف الحد الأدنى لرأس المال الإلزامي البالغ 250 مليار دينار عراقي، أي 214 مليون دولار. أما مصرف الرافدين فلديه خمس الحد الادنى، فيما المصارف الإسلامية والبالغ عددها 6 مصارف تعمل من دون قانون مصرفي إسلامي خاص بها. وعلى الرغم من أن عدد المصارف في العراق يبلغ 56 مصرفاً فلا يوجد أي تبادل للمعلومات فيما بينها حول ما يتعلق بالمقترضين الحاليين أو المحتملين.
ومن الغريب ان المصارف العراقية لا تطبق أبسط أصول التعامل المصرفي، اذ بعد ثلاثة عشر عاماً من التغيير الذي حصل في العراق، فإنها لا تمتلك رقما تعريفيا دوليا، ( IBAN)، الذي يعد أساسيا ومهما في التعامل المصرفي العالمي، لان الفاسدين لا يرغبون بربط النظام المصرفي العراقي مع النظام المصرفي العالمي لتسهيل عمليات غسيل الأموال، وتمويل الصفقات المشبوهة؛ ما يؤثر هذا الأمر سلباً على تطور القطاع المصرفي، وتراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية.
3- وجود إهمال كبير في إحصاءات الاقتصاد الكلي، التي تعاني الإهمال وضعف الخبرات؛ لذلك فإن معظم الحسابات التي يتم إعدادها تنقصها الجودة، نتيجة نقص البيانات المصدرية الشاملة عن الأنشطة، وفئات الإنفاق في الناتج المحلي، و حسب توقعات الصندوق ستصل إيرادات العراق النفطية إلى 5 تريليون دينار في العام الحالي، و12 تريليون دينار في 2017، أما الدين العام فإنه سيرتفع إلى 66 % من مجمل الناتج المحلي هذا العام الواقع المتخلف للاقتصاد العراقي وعدم ثقة المؤسسات الدولية بالإدارات الحكومية التي تعاقبت على العراق بعد 2003، ناهيك عن الصورة المستقبلية غير المشجعة للاقتصاد العراقي لهذه الأسباب فرض الصندوق عدة شروط على منح العراق أية قروض، واتفق مع الحكومة العراقية على عدة إجراءات، ومن أهمها :
1-تطبيق”ﺣﺳﺎب اﻟﺧزاﻧﺔ اﻟواﺣد”، بإعداد ﻗﺎﺋﻣﺔ بحسابات جميع اﻟﻣﺻارف اﻟﺗﻲ تخضع ﻟﻣراﻗﺑﺔ وزارة اﻟﻣﺎﻟﻳﺔ، وتحديد ﻛﻝ اﻹﻧﻔﺎقات اﻟﻔرﻋﻳﺔ ﻓﻲ اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻻﺗﺣﺎدﻳﺔ.
2- الكشف عن حجم المستحقات للمقاولين المحليين، وتقديم حسابات تفصيلية عن الرعاية الاجتماعية، والبطاقة التموينية.
3- التوقف عن أية تعيينات جديدة، باستثناء قطاعات الصحة والتعليم والأمن.
4- تشديد الرقابة على غسيل الأموال، مطالباً هيئة النزاهة بالتحري عن الأصول المالية لكبار اﻟﻣﺳؤوﻟﻳن؛ لتحسين ﺟﻬود ﻣﻛﺎﻓﺣﺔ اﻟﻔﺳﺎد، وتعزيزها.
5- مساعدة البنك الدولي لوزارة التخطيط للقيام بعملية إصلاح “إدارة الاستثمار العام”؛ لذلك وجه خبراء الصندوق بإنشاء وﺣدة ﻣرﻛزﻳﺔ ﻹدارة اﻻﺳﺗﺛﻣﺎر اﻟﻌﺎم لفحص اﻟﻣﺷروﻋﺎت ﺑﻧﺎء ﻋﻠﻰ دارﺳﺎت ﺟدوى لتأسيس ما يسمى بـ “مصرف المشروعات المتكاملة” بإدارة وزارة التخطيط ، وذلك لزيادة الإنفاق الاستثماري، وتحقيق نمو خارج القطاع النفطي .
6- الاشراف على ديون العراق واخضاعها للرقابة بالإضافة لتدقيق رواتب الموظفين لمنع حالات التلاعب بها، والدفع المتكرر أو الدفع لما يسمى بـ “الفضائيين”.
7- في الوقت الذي يعاني فيه العراق نقصا حادا في الخدمات وبخاصة الكهرباء والماء ستتم زيادة تسعيرة الكهرباء لمن يستهلك أكثر من 600 كيلو واط شهرياً، و قد اقترحت وزارة المالية فرض ضرائب على رواتب الموظفين من الدرجة الثانية صعوداً،( ميدل ايست اونلاين).
لذا كان الأجدر بالحكومة العراقية بدلا من عملية الاقتراض التي سيكون حتما لها اثأر سلبية على مستقبل العراق الاقتصادي والتبعية للصندوق، ان تعالج جراحها بنفسها بالاعتماد على مواردها الذاتية، وتوقف نزف الفساد والتسويف والمماطلة بتطبيق القوانين من جهة، وتخفض نفقاتها من جهة أخرى، لأن في ذلك محاولة جادة لمعالجة أسباب المشكلة الرئيسية، بدلا من البحث عن معالجة النتائج، فالدول والحكومات عند تتوفر لديها الإرادة الحقيقية لحل أزماتها ومشكلاتها، تتوجه مباشرة نحو الأسباب الحقيقية لذلك، دون أي التفاف، تارة بغض النظر ، وتارة أخرى بمحاولة معالجة النتائج دون الأخذ بالأسباب، وتطبيقا لمقولة:” تشخيص الداء نصف الدواء”، على الحكومة أن تكون أكثر شفافية في تشخيص الوضع، وأكثر إجرائية في السير على الطريق الصحيح في المعالجات، واضعة مصلحة العراق السيادية، والوطنية نصب عينيها.
شذى خليل
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية