في 2003، أعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، أن الهدف الأسمى لحكومته سيكون السير في طريق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من خلال الوفاء بالمعايير السياسية والاقتصادية اللازمة لتحقيق ذلك الهدف. ومن ضمن التصريحات التي اعتاد المسؤولون الأتراك على ترديدها، أن مستقبل تركيا مع أوروبا، وأنه لا ينبغي على الأخيرة أن تغلق أبوابها في وجه أنقرة وإلا تحوّل الاتحاد الأوروبي إلي نادٍ مسيحي مغلق.
وعمدت مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام التركية إلى تقديم تركيا كدولة مدنية حديثة يعلو فيها حكم القانون على ما عداه. كما ركز المفاوض التركي على أن أهمية تركيا الاستراتيجية لا تنبع فقط من موقعها الجيواستراتيجي، ولا قوتها العسكرية والاقتصادية، بل أيضاً في كونها جسراً يربط بين العالم الإسلامي وأوروبا، فضلاً عن أنها قوة إقليمية قادرة على المساهمة في استقرار الشرق الأوسط.
حينما قرر الاتحاد الأوروبي عام 2005 فتح باب المفاوضات، احتفت الصحف التركية على اختلاف توجهاتها بهذا القرار التاريخي، وأطلق بعضها على أردوغان لقب “الفاتح”، وهو لقب عثماني قديم يطلق فقط على القادة المنتصرين في المعارك العسكرية الكبرى. كان اللقب في حد ذاته، إشارة إلى الآمال الكبرى التي يعلقها الأتراك على انضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوروبي. استطاعت تركيا منذ ذلك التاريخ تحقيق إنجازات مهمة، لا سيما في المجال الاقتصادي، وأشاعت الأجواء الإيجابية التي سادت وقتها مناخاً استثمارياً مشجعاً جعل البورصة التركية تحتل المركز الخامس عالمياً من حيث حجم التداولات، كما شهدت قيمة الليرة ارتفاعاً ملحوظاً أمام العملات الأجنبية.
سياسياً، كان أهم شرط وضعته أوروبا أمام أنقرة هو تسوية النزاعات السياسية بين تركيا وعدد من الدول المجاورة لها. وبدأت أنقرة السير في هذا الاتجاه بتسوية الخلافات الحدودية مع سورية من خلال التوصل إلى اتفاق في شأن ترسيم الحدود وإقامة تعاون اقتصادي فاعل بين البلدين. ونفت أنقرة وجود أية أطماع إقليمية لها في العراق، كما عمدت إلى تهدئة التوتر مع اليونان وقبرص في شأن القضية القبرصية وجزر بحر إيجه. كان من أهم ما نجحت أنقرة في تحقيقه، تحسين الوضع الاقتصادي للمواطن التركي وتطوير البنية التحتية والصناعية، ما انعكس على قطاع السياحة الذي شهد انتعاشاً ملحوظاً.
من ناحية أخرى، شعرت دول المنطقة بأن السياسة التركية الجديدة تصبّ في مصلحة المنطقة واستقرارها، بخاصة مع تأكيد أنقرة احترامها الحدود التاريخية والسلامة الإقليمية للدول المجاورة، ما تلقته أوروبا بارتياح.
بعد عِقد تقريباً من قرار فتح باب المفاوضات، يمكن رصد تغيرات في الاتجاه المعاكس. فمنذ أسابيع قليلة وفي أثناء الاحتفال بذكرى تأسيس الجمهورية، ألقى الرئيس التركي كلمة استخدم فيها مصطلحاً سياسياً جديداً هو “الحدود العاطفية لتركيا”، حيث أشار إلى أن تاريخ تركيا وفضاءها يعودان إلى ما قبل تأسيس الجمهورية بقرون عدة، وتحدث عن مناطق ومدن تقع وراء الحدود السياسية لتركيا تدخل ضمن حدودها العاطفية، ومن بين هذه المناطق القرم والقوقاز وحلب والموصل. ونوه بأن تركيا لا يمكن أن تسجن في 780 ألف كم2 هي مساحتها الحالية.
من جانب آخر، اتخذ البرلمان الأوروبي قراراً يطالب فيه بوقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي موقتاً، كرسالة اعتراض على الإجراءات العنيفة التي اتخذتها الحكومة التركية منذ فشل انقلاب تموز (يوليو) الماضي، وهي إجراءات طاولت آلاف العسكريين وأساتذة الجامعات والقضاة والمعلمين والصحافيين وغيرهم ممن تتهمهم السلطات بالتورط في الانقلاب، وتراوحت هذه الإجراءات بين الاعتقال والفصل والوقف عن العمل.
جاء الرد التركي عنيفاً، فأعلن أردوغان عزمه إجراء استفتاء حول مواصلة مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد من عدمها. كما هدد بفتح حدود بلاده مع أوروبا أمام عشرات الآلاف من اللاجئين، وهو قرار كفيل بإدخال أوروبا في أزمة حقيقية. ربما بدت تركيا الآن أبعد ما تكون عن أوروبا، لكن من الضروري تأكيد أن غالبية الأتراك لن يكونوا سعداء إذا ظلت علاقات تركيا بأوروبا متوترة. إن تطبيق حكم القانون والعودة إلى مبدأ “تصفير النزاعات” كفيلان بإعادة أنقرة إلى مسار المفاوضات وإلى المساهمة في تخفيف التوتر القائم في الشرق الأوسط.
محمد عبدالعزيز
صحيفة الحياة اللندنية