اعتُبر تمرير قانون الحشد الشعبي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي من قبل مجلس النواب العراقي مكسبا كبيرا للفصائل الشيعية المنضوية في هيئة الحشد الشعبي، لكن الخلافات الحادّة التي بدأت تخرج إلى العلن بين قادة تلك الفصائل ورئيس الوزراء حيدر العبادي بشأن القانون ذاته، تظهر عدم رضا قيادات بارزة في الفصائل المسلحة الموالية للنظام الإيراني بالامتيازات والمكاسب التي منحت للحشد، وأنّ تلك القيادات لا ترضى بأقل من تحويل فصائلها إلى “حرس ثوري” على الشاكلة الإيرانية.
جوهر الخلاف بينهما يتمحور حول أن قيادات الحشد “مستاءة” من رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي -من وجهة نظرها- لم يلتزم بمسودة قانون الحشد الشعبي، وقدّم لمجلس النواب العراقي مسودة مختلفة كليا. ويرون قادة الحشد أن مسودة الأصلية التي اتفقت قيادات الفصائل مع العبادي على بنودها تتضمن مساواة قادة ومنتسبي الحشد الشعبي بقادة ومنتسبي وزارتي الدفاع والداخلية على صعيدي المستحقات المالية والتسليح. في حين أن مجلس النواب العراقي أقر مسودة تنصّ على تكييف الأوضاع القانونية للمنتسبين إلى الحشد وفق التراتبية العسكرية في ما يتعلق بالرواتب، وهذا يتطلب صدور تعليمات جديدة من القائد العام للقوات المسلحة. وإنّ المسودة التي اتفقت عليها قادة الحشد الشعبي مع حيدر العبادي لا تتضمن أي إشارة لمنع قياداته، بعد إقرار قانونه، من العمل السياسي، ولكن النسخة التي أقرها مجلس النواب العراقي تتضمن نصا صريحا يمنع كل المنتسبين إلى الحشد من الانخراط بالسياسة.
ومن جانبه رد حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي على اعتراض هذه القيادات بإبلاغها أنّه شكل لجنة لوضع تعليمات تخص رواتب وتسليح تشكيلات الحشد الشعبي بعد إقرار القانون، ولكنه أبلغها أيضا أن رواتب وامتيازات الحشد لن تكون، بأي حال من الأحوال، مساوية لرواتب وامتيازات وزارتي الدفاع والداخلية، مبررا ذلك بشحّ الأموال، وبأن المساواة بين امتيازات الحشد والوزارات الأمنية سيغضب القيادات العسكرية الرسمية.
وأمام هذا الخلاف شرع قادة الفصائل الشيعية المعترضة” عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وكتائب الإمام علي، وسرايا الخرساني، والنجباء في العراق بالتعاون مع كتل سياسية، في إيجاد مخرج لما يعتبرونها “مآزق” انطوى عليها قانون الحشد الشعبي ويتمثل هذا “المأزق” من وجهة نظر تلك الفصائل ما نصّ عليه القانون المذكور بشأن إسناد قيادة الحشد بعد تحوّله إلى جسم عسكري مستقل ضمن القوات المسلّحة العراقية، إلى رئيس الوزراء الذي يشغل في الوقت ذاته منصب قائد أعلى للقوات المسلّحة، ومنحه صلاحية تحريك قطعات الحشد واختيار مواضع تمركزه والمهمات الموكولة إليه. وسيعني ذلك سحب الفصائل من أيدي قادتها وهو ما لا يمكن أن يقبل به هؤلاء القادة النافذون ومن يقف وراءهم من سياسيين بأي حال من الأحوال، لكون الفصائل تمثّل أذرعهم الضاربة وضمانتهم في صراعهم على المكاسب والمناصب ضدّ خصومهم سواء من داخل البيت السياسي الشيعي أو من خارجه.
يهدف رئيس الوزراء في جعل هذه الفصائل مهنية تابعة إلى القائد العام للقوات المسلحة وليست مجرد تابع شكلي له، وأن تتلقى عناصر الفصائل التعليمات منه وليس من قادة فصائلهم، وأنهم بذلك يصبحون جزء أصيل من القوات المسلحة العراقية التي بموجب القانون يحظر عليها العمل السياسي، وهذا ما لا يرتضيه قادة الفصائل في الحشد الشعبي إذ يعول عليهم في الانتخابات مجالس المحافظات والنيابية القادمة في العراق.
وإزاء ذلك ترأس أبومهدي المهندس، طرحت خلاله عدة خيارات، أولها تعديل نص قانون الحشد الشعبي بما يحقق المطالب التي اتفقت عليها سابقا مع رئيس الوزراء. أما الخيار الثاني فيتمثل في أن تزج الفصائل الموالية لإيران بجزء صغير من قواتها في ألوية الحشد الشعبي التي ستتشكل وفق القانون الجديد، على أن تحتفظ بالجزء الأكبر من قواتها خارج هذه الألوية. والهدف الأساسي من هذا الخيار هو تجنب ما يمكن أن يترتب على تبعية قوات الحشد الشعبي للقائد العام للقوات المسلحة في ما يتعلق بالولاء، وفق قاعدة أن المقاتل يوالي من يدفع راتبه، كما يسمح لقيادات الفصائل المسلحة بامتلاك مقاتلين ونفوذ بعيدا عن الدولة، ويسهل مهمة مشاركتها في العمل السياسي. أما الخيار الأخير المطروح، فهو الإعلان عن رفض الفصائل بشكل كامل انخراط مقاتليها في تشكيلات الحشد الشعبي التي يحددها القانون.
ويعتبر المحللون السياسيون أن الخيارين الأول والثالث، مستبعدان، مرجحة أن يكون الخيار الثاني أقرب إلى التحقق، ولكنه يضع قيادات الفصائل المسلحة الموالية لإيران أمام حقيقة أن النفوذ الأكبر في هيئة الحشد الشعبي التي ستتشكل بعد إقرار القانون سيكون لسرايا السلام التابعة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي أعلن صراحة أنه سيطلب من كل مقاتليه الانخراط في تشكيلات الحشد، لأنه لا يخشى على ولائهم المطلق له. والجميع يعرف أن تعداد مقاتلي سرايا السلام، بمفردها، يفوق تعداد مقاتلي جميع الفصائل الأخرى مجتمعة.
ومما لا شك فيه يقف النظام الإيراني وبقوة مع الفصائل “المستاءة” من حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي، لأن هذا القانون وفق صيغته الحالية لا يخدم مصالحه كما ينبغي فهو يسعى لثلاثية مستنسخة: «الجيش والشعب والمقاومة» في لبنان، و«الجيش والشعب والحشد الشعبي» في العراق. فالنظام الإيراني يستفيد من تجاربه «الناجحة» ويعمّمها، وما يرى أنه استطاع خدمة أهدافه في لبنان تنقله الى العراق والى أمكنة أخرى، والعكس صحيح. في لبنان، تحولت «المعادلة الذهبية» التي أجبرت دمشق وطهران عبر «حزب الله» الحكومات المتعاقبة على تبنّيها، باعتبار أنها كانت تشير الى دوره في مواجهة إسرائيل، الى أداة لتبرير كل تجاوزات الحزب الداخلية وسياسة التعطيل التي يتبعها كلما أفلتت الأوراق السياسية من يده، ثم تحولت الى وسيلة لـ «تشريع» تجاوزاته الخارجية ومشاركته في الحربين الأهليتين السورية واليمنية، قبل أن تصبح مسوغاً لوضع اليد على المؤسسات والإمساك تماماً بالقرار السياسي. وعملياً، فإن المعادلة الثلاثية ولدت مفرغة من الشريكين الآخرين. فـ «الشعب» هو فقط «البيئة الحاضنة» للحزب، أما المكونات الأخرى فلا حساب لرأيها أو رغباتها، ويمكن تجاوزها وإسكاتها بقوة السلاح مثلما حصل في أيار (مايو) 2008. في حين أن الجيش مغلوب على أمره، لا يملك أن يتخلى عن دوره لأن هناك من يقاسمه إياه، ولا يستطيع أن يواجه من يسرق مهمته لأن ذلك يخلّ بدوره ويجعله طرفاً في مواجهة أهلية يفترض أنه فوقها. وفي حين حاول «حزب الله» في بداياته إخفاء توجهاته المذهبية بنسب نفسه الى تيار أوسع يتلطّى بـ «الصراع مع إسرائيل»، أملاً باستقطاب بعض «العروبيين»، ثم عاد فتخلى عن تحفظه سواء عبر كشف تورطه في التوازنات المذهبية في الداخل اللبناني، أو عبر رفع شعارات مذهبية عنواناً لتدخله في سورية فإن «الحشد» العراقي لم يجد غضاضة منذ تأسيسه في الكشف عن وجهه المذهبي الفاقع، وإعلان ولائه التام للنظام الإيراني عبر تسلّحه وتموّله منه وتسليم قيادته الى ضباط «الحرس الثوري». وإذا كان الجيش اللبناني يحتفظ مبدئياً بهامش من الاستقلالية ويخضع للسلطة السياسية الممثلة برئيس الجمهورية ووزير الدفاع، والتي تتداخل في قرارها عوامل خارجة عن سيطرة «حزب الله»، فالسؤال هو عن حاجة سلطات بغداد المتحالفة مع طهران، والتي تملك جيشاً تمسك بقراره ويشبه الجيش الذي بناه حافظ الأسد في سورية وجعل كبار ضباطه يخضعون لمن هم أدنى رتبة منهم إذا كانوا من طائفة معينة، الى تشريع «الحشد الشعبي» واعتباره من «المنظومة العسكرية» وتخصيص نسبة له من الموازنة الدفاعية. ومثلما تحوّل «حزب الله» الى قوة عسكرية تخضع للقرار الإيراني في لبنان وسورية، يستعد «الحشد الشعبي» للعب دور مماثل في العراق خدمة للأهداف نفسها.
لا نلغي دور مَن دخل الحشد بدافع مواجهة «داعش»، لكن علينا ألا ننسى محاولات تهميش الجيش العراقي، وملء وسائل الإعلام بانتصارات تلك التشكيلات على حساب انتصارات الجيش. ما هو دور الضابط الإيراني سليماني، وقد أصبح قائداً فعلياً له، لا مجرد مستشار مثلما صرح البعض؟ تعالوا نسمع ما يقوله نائب قائد «سرايا الخراساني»، الذي حمل الشباب العراقيين مذابح حلب: «إن الحاج قاسم صنع الرِّجال، استطاع أن يُوجد أبطالاً، لو أن الحاج قاسم لم يكن موجوداً ما ظهر هؤلاء الرِّجال». فإذا كان زعيم في الحشد يفكر بهذا التفكير هل تجده يقر للجيش العراقي بمكانة أو رجولة؟! ويرى المحللون السياسيون كان الأجدر أن يُلغى الحشد، ويُضم مَن يرغب في الانضمام إلى الجيش وبضوابط وطنية، أما أن يُنظم على أساس طائفي ومرجعيات دينية، فهذا يجعله في حلٍ من الوطنية -وهذا ما يسعى إليه النظام الإيراني- ، وكل جماعة تعود لمرجعها الديني أو قناتها السياسية خارج الحدود.
يسعى النظام الإيراني عبر قانون الحشد الشعبي وفصائله المسلحة في العراق إلى ترسيخ ثقافة “الفصائل المسلحة” في المجتمع العراقي ويدفع إلى تنامي هذه الظاهرة في المنطقة كلها، ما يعمق الفوضى ويضعف وظيفة الدول ويزيد من الفروق، وتاريخ الحشد الشعبي وظروف نشأته وارتباطه الخارجي بالنظام الايراني، يعمق تدخله في الشأن العراقي ويزيد من روح «الطائفية الانتقامية». وهذا الحشد، على افتراض أنه كان مفيداً، في مرحلة مواجهة الإرهاب سيشكل عبئاً على الشعب العراقي بأعداده الكبيرة وولائه العقائدي السياسي قد يفسد الحياة السياسية ويحولها إلى «مراكز قوى» تتصارع ويجفف منابع الثقافة المدنية و«يعسكر» المجتمع ويشجع الطوائف الأخرى إلى خلق «حشودها» لحماية نفسها، وحينئذ يصبح العراق دولة فصائل مسلحة تحكمها «عصابات» تعمل لمصالح مؤسسيها بغض النظر عن مصالح الوطن. والسؤال المحوري: هل تستطيع القوى السياسية العراقية «ضبط» هذا الحشد في قانون يجعله تحت سيطرة الدولة أم أن القوى الحاكمة تريده قوة تحركها وقت ما تشاء خارج نظام الدولة؟ وماذا عن موقف الدول المجاورة مما يجري في العراق؟
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية