بعد 36 عاما من ثورتها ما تزال إيران تتدبر قضايا الايديولوجيا والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، وتبحث عن وسائل تأمين امنها القومي عبر وسائط أربع: تأمين هويتها الدينية كنظام حكم أدخل منظومة الإسلام السياسي كطرف في صراع القوى العالمي.
الثاني: توسيع نفوذها الاقليمي بتحالفات مع الدول المجاورة الاكثر تناغما مع اطروحاتها الدينية والسياسية، والثالث فتح صفحة جديدة في علاقاتها الدولية تبدأ بتبريد نقاط التماس مع الغرب، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، تنقية الاجواء الاقليمية من العقبات التي اصبحت بمثابة اسلحة تستهدف منظومتها، ومن ذلك: التطرف والطائفية والإرهاب. هذه الاستراتيجية مفهومة بشكل واضح لدى القوى المناوئة لنظام الحكم الإيراني المؤسس على المباديء التي أعلنها قائد ثورتها، الامام الخميني، في مثل هذه الايام من العام 1979. ولذلك تسعى هذه القوى لعرقلتها بكل ما لديها من وسائل.
وتلعب القوى الاقليمية المناهضة لتلك الاستراتيجية دورا محوريا في التصدي لما يطلق إعلامها عليه «المشروع الإيراني»، ويتمثل ذلك الدور بعدد من المحاور: اولها إحكام الحصار الاقتصادي على الجمهورية الإسلامية بدعاوى شتى تتصدرها دعوى سعي إيران لامتلاك سلاح نووي. ثانيها: تطوير ذلك الحصار مؤخرا بضرب اسعار النفط بقوة غير مسبوقة، ادت لتداعي اسعاره إلى ما دون الخمسين دولارا للبرميل الواحد في مقابل اكثر من ضعف ذلك قبل عامين.
ثالثها: المقارعة بالمثل: فاذا كانت إيران قد أسست مشروعها السياسي بعد الثورة على الإسلام فأقامت ما يسميه الغربيون «الإسلام السياسي» فقد تمخضت عبقرية مناوئيها عن عنوان آخر اثبت قدرته على ترويض «المشروع الإيراني»، فأصبح التمايز الطائفي عنوانا لذلك.
هذا السلاح ليس موجها ضد إيران بشكل خاص، بل انه يستهدف الحركات الإسلامية التي كانت مرشحة لقطف ثمار الربيع العربي والوصول إلى الحكم في العديد من الدول العربية، خصوصا مصر، والبدء بالتجهيز لاقامة انظمة حكم ذات طابع إسلامي. وهنا طرحت المسألة الطائفية كسلاح ضد مشاريع الإسلام السياسي لدى الحركات الإسلامية العربية. وجاء استهداف تلك الحركات بشكل تصفيات دموية كما حدث للاخوان المسلمين في مصر او ارهاصات عسكرية كما يحدث في ليبيا او «هندسة» الانتخابات كما حدث في تونس، او تحويل المسار الثوري إلى حمامات دم كما هو الحال في سوريا.
رابعها اعادة هيكلة المشروع الإسلامي على ايدي اعدائه ليتحول إلى ما هو ضده تماما، بحيث يبدأ تنفيذ ذلك المشروع بشكل مقلوب: فيسلب الامن من الناس ويبدأ بقطع الرؤوس وبتر الاطراف وجلد الظهور، بدون ان يعطى للجماهير دورها في تقرير مصيرها.
خامسها: تهميش القضية الفلسطينية على كافة الصعدان بعد الاجهاز على ثورات الربيع العربي. هذا التهميش أضعف وتدا آخر للسياسة الخارجية الإيرانية التي كانت قضية فلسطين من اهم اولوياتها منذ قيام الثورة.
إيران اليوم تواجه من التحديات ما يفوق كافة ما واجهته منذ تأسيس نظامها السياسي منذ 1979. وبرغم حجم ما تعرضت له في السنوات العشر الاولى من الثورة وفي مقدمته الحرب العراقية – الإيرانية التي امتدت ثماني سنوات، واغتيال كبار قادتها على ايدي مجموعات مسلحة انطلقت من داخل اراضيها، وفرض حصار اقتصادي تواصل طوال عمر الثورة، فان ما تواجهه اليوم مختلف تماما في مساحته وعمقه ومداه وعمقه. فمواجهة مشروعها السياسي بالسلاح الديني ليس امرا هينا، وليس من السهولة بمكان كسب المعركة. لقد استخدم السلاح الكيماوي ضد قواتها على جبهات الحرب العراقية الإيرانية، وما يزال آلاف جنودها ومتطوعيها الذين كانوا على الحدود آنذاك يعانون من آثار الاسلحة التي تؤدي إلى ضعف أداء الجهاز التنفسي وتليف الرئة. والسلاح الطائفي يفوق السلاح الكيماوي تأثيرا وتدميرا لأنه يلامس صلب العقيدة السياسية للنظام السياسي الإسلامي الذي يعتبر وحدة الامة من اقوى مرتكزاته. وبالتالي فان تمزيق الصف الإسلامي يسلب من النظام احدى اهم دعاماته. هذه المرة جاء ضرب مشروع الإسلام السياسي من داخله، بطرح المسألة الطائفية كحاجز بين فصائل الإسلام السياسي. وبالاضافة للحواجز التي صنعت بين الحركات الإسلامية السياسية في اغلب البلدان العربية وإيران، استطاع اعداء المشروع الإسلامي اضعاف العلاقات بين فصائل المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين بفرض البعد الطائفي على العلاقات وتعميق الحساسية في ما بينها. وقد جاء العدوان الاسرائيلي الاخير على مقاتلي حزب الله بمنطقة الجولان السورية وقتل ستة منهم، من بينهم جهاد، نجل الشهيد عماد مغنية، ليرمم شيئا من تلك العلاقة. فقد شعرت الفصائل الفلسطينية بضرورة استعادة التوازن في الموقف ومنع العدو من اختراق صفوف المقاومة، فاعلنت تضامنها مع حزب الله في ظروف كاد الاحتلال يعلن النصر الكامل على الامة. ان الاستهداف هذه المرة اصبح شاملا وعميقا، فبالاضافة للحصار الاقتصادي والمصرفي على إيران، وهو حصار يتجدد ويحاصر شعب إيران في معيشته، فان ضرب اعمدة السياسة الإيرانية التي تشكل بمجموعها جانبا من هوية الثورة، اصبح مصدر قلق للقيادات الإيرانية، خصوصا الدينية والروحية. ولذلك ما فتئ مرشد الثورة يطلق الخطابات الهادفة لاعادة التوازن للسجال الفكري والسياسي، ومحاولة الحفاظ على اتجاه الثورة على صعدان عدة منها: التحرر من التبعية، واستقلال إيران والعالم الإسلامي من النفوذ الغربي، واقامة الوحدة بين المسلمين، واعادة قضية فلسطين إلى صلب الاهتمام العربي والإسلامي، والحفاظ على ثروات العرب والمسلمين بالاستفادة منها ضمن المنطق والمعقول، بعيدا عن التبديد واساءة الاستخدام.
في ذكرى ثورتها تبدو الجمهورية الإسلامية في صراع مع الزمن لوقف تداعيات الموقفين العربي والإسلامي ازاء القضايا المحورية. وتعلم طهران ان ما يحدث على حدودها الشرقية والغربية انما هو محاولات لاستدراجها لمستنقع حروب استنزافية لا تخدم هدفا نبيلا. وما انتشار التطرف والإرهاب والعنف على حدودها الا حلقات من مسلسل التصدي لمشروع الإسلام السياسي الذي تمثل إيران محوره الاساسي. وبالاضافة لضرب إيران، يهدف مروجوه وداعموه لضرب مشاريع التغيير في العالم العربي التي كادت تتحقق بقيام ثورات الربيع العربي لولا تصدي اطراف عديدة لضربه بقسوة. والواضح ان هناك تحالفا واسعا بين الغرب وحكومات المنطقة لمنع ذلك التغيير. وبالاضافة لاحتفاظ الغرب بنفوذه السياسي والعسكري في المنطقة، فقد ضمن ثلاثة امور مهمة: اولها النفط الذي يتدفق له بمعدلات كافية واسعار منخفضة جدا، وثانيها اضعاف الجبهة العربية في مواجهة «اسرائيل» وتمزيق المقاومة للاحتلال وفق خطوط التمايز الطائفي، واحتواء مشروع الإسلام السياسي في شقه العربي. ويمكن لمن يريد التأكد من صحة هذا الزعم قراءة السياقات السياسية بتجرد وموضوعية وانسلاخ من المحيط السياسي والمذهبي الصاخب. إيران، من جانبها، تعي جانبا كبيرا مما يجري، ولكن قدرتها على التصدي لكل ذلك محدودة جدا. ولا تساعدها اوضاعها الاقتصادية او خصوصيتها المذهبية او سياستها ازاء القضية الفلسطينية، او اصرارها على حماية مشروعها النووي، على تحقيق اختراق كبير لمواقف الاطراف الاخرى. وطالما بقيت مجموعات «الإسلام السياسي» التي استهدفت بشكل اساسي من قبل قوى الثورة المضادة واقصيت عن الحكم، عاجزة عن ادراك الحقيقة التي ذكرت آنفا وهي انها هي المستهدفة حقا من كافة الاجراءات المذكورة، فستظل رهينة طيعة لدى واضعي خطط القضاء على الإسلام السياسي.
إيران لم تستسلم لاي من هذه الضغوط، وان كان الاعياء قد بدأ يترك آثاره عليها. فهي تعيش حالة استنزاف سياسي واقتصادي وايديولوجي متواصل. وبرغم خطابها الحريص على توعية الجماهير العربية والإسلامية لخطط اعداء الامة، فما تزال اصوات التشويش والضوضاء تحجب الحقيقة وتحرم إيران من الآذان الصاغية التي يؤسس أصحابها منطلقاتهم ومواقفهم على المنطق والوعي والبرهان. ومن مظاهر الاعياء اوضاعها الاقتصادية الصعبة لاسباب ثلاثة: الحصار المفروض عليها منذ اكثر من ثلاثة عقود وتداعي اسعار النفط وانفاقها على حركات المقاومة. وثمة ادراك بان الرئيس حسن روحاني عنصر ايجابي لتهدئة الوضع الداخلي وتحقيق التوازن المطلوب بين «الثورة» و «الدولة»، وان ذلك الوجود ربما دفع الأمريكيين لاعادة النظر في مواقفهم التاريخية المعادية لإيران، وشجعهم لاتخاذ قرار تاريخي بترميم العلاقة بشكل تدريجي.
د. سعيد الشهابي
القدس العربي