لأكثر من عقد من الزمن، تابع المحللون السياسيون تمنيات تركيا الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلى درجة أن كل خطوة اتخذتها أنقرة كان يُنظر إليها من موقع: «هل تساعد أم تؤذي جهود الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!». لكن في الأسابيع الماضية لمح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى أن العالم كله كان على خطأ في التركيز على التوجه التركي نحو أوروبا «مهما كان الثمن»، خصوصًا أنه من الأسهل كثيرًا عليه الانضمام إلى الاتفاقية الأمنية الشرقية إلى جانب روسيا والصين ودول آسيا الوسطى.
الشهر الماضي قال إردوغان لمجموعة من الصحافيين: «تركيا يجب أن تكون مرتاحة، لا أن نقول إن هدفنا هو الاتحاد الأوروبي مهما كان الثمن»، مضيفًا أنه ناقش انضمام بلاده إلى منظمة شانغهاي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأعضاء آخرين من المنظمة الشرقية. وخلص الرئيس التركي إلى القول: «إذا قررت تركيا الانضمام إلى منظمة شانغهاي، فهذا سيتيح لها العمل بسهولة أكثر». «الراحة» المتعلقة بتركيا يمكن ترجمتها بألا تكون ملزمة بالقوانين ومعاهدات الاتحاد الأوروبي، كقوانين مكافحة الإرهاب، وحرية التعبير والحرية الشخصية، والسيطرة على تجارة الأسلحة (من أبرز العقبات في طريق انضمام النظام التركي إلى الاتحاد الأوروبي). ويبدو أنه في الأشهر الأخيرة بدأ إردوغان يتجه وبسرعة نحو طريق «تحرير» تركيا من قيود لوائح الاتحاد الأوروبي. وكان هذا واضحًا بعد محاولة الانقلاب في 15 يوليو (تموز) الماضي، والاعتقالات التي تلت، والقيود على وسائل الإعلام، مع الحرية في التعيينات السياسية. وقد يكون تعيين عدنان تانريفردي مستشارًا رفيع المستوى لإردوغان، هو الأبرز.
تانريفردي علامة أساسية لرياح لتغيير في أنقرة. لديه خلفية عسكرية غنية جدًا، وشبكة كثيفة من العلاقات السياسية، إضافة إلى آيديولوجيا إسلامية قوية. لديه تاريخ طويل مع إردوغان. تعرفا على بعضهما خلال سنوات الأزمات الاجتماعية التي عصفت بتركيا، وأدت لاحقًا إلى انتخابات فاز بها إردوغان. يتكئ تانريفردي على تاريخ عسكري مميز، لكنه طُرِد عام 1997 من القوات التركية الخاصة مع ضباط آخرين، بسبب آرائه الإسلامية الراديكالية.
عام 2012، أنشأ تانريفردي، مع مجموعة من الأمن التركي وقدامى المحاربين الذين يشاركونه توجهه السياسي، الشركة الأمنية «سادات». هدف الشركة «إقامة تعاون دفاعي بين الدول الإسلامية، لمساعدة العالم الإسلامي على تحقيق المكانة التي يستحقها بين الدول العظمى، من خلال تقديم المشورة والتدريب للجيوش وقوات الأمن في تلك الدول». وفي ظل هذا الهدف، اتُّهِمت «سادات» أكثر من مرة بأنها تدعم المسلحين السوريين في تركيا وتدربهم.
من العاملين الآخرين مع «سادات»، حركة «حماس»، التي، ومنذ سنوات، تعتمد على الشركة لتطوير قدراتها العسكرية. وذُكر أخيرًا أن تانريفردي وشركته «سادات»، تعاونا سرًا على إنشاء وحدة كومندوس بحرية تابعة لـ«حماس». وكشف مقربون من الجنرال تانريفردي، لوسائل الإعلام، أن خلية لـ«حماس» من «كتائب عز الدين القسام» اعتُقِلت في مصر، كان من المقرر أن يخضع أفرادها لتدريبات بحرية على أيدي خبراء عسكريين من «سادات» في أحد مرافق الشركة في تركيا. وكانت السلطات المصرية اعتقلت، العام الماضي، أفراد الخلية قبل أن يستقلوا الطائرة في طريقهم إلى تركيا، ولا تزال هذه القضية واحدة من الخلافات الرئيسية بين القاهرة و«حماس».
كرئيس لـ«سادات»، كان تانريفردي ولسنوات عديدة على اتصال سري مع الذراع العسكرية لحركة «حماس». وقال مصدر مطلع على نشاطات تانريفردي إن الجنرال كان يشارك شخصيًا في تطوير القدرات العسكرية للحركة، إنْ كان في التدريب على القتال البحري، أو على التمكن من تقنيات المراقبة المتقدمة. وكشف المصدر أيضًا، أن كون تانريفردي يعرف شخصيًا المسؤولين الرئيسيين في «حماس» بمن في ذلك قادة عسكريون منتدبون إلى مقرها في تركيا، فقد وافق على تدريب رجالها على الأسلحة الجديدة التي تساعدهم في مواجهتهم مع «مصر، وإسرائيل وأيضًا مع منافسيهم في السلطة الفلسطينية».
بسبب سوريا، حولت «حماس» أنشطتها العسكرية إلى تركيا، لأنها أجبرت على التخلي عن ساحات التدريب، ونقل الأسلحة. وعلى هذا النحو، صارت تركيا تمثل استراتيجية عسكرية مهمة لجناح «حماس» العسكري.
الآن وبعدما أصبح تانريفردي، رسميًا، جزءًا من النظام التركي، فمن المرجح أنه و«سادات» مع تدريباتها العسكرية، سيصبحان نافذة «حماس» على تركيا للحصول على مساعدات عسكرية سياسية. والمعروف أن منفذًا لمسؤول أمني رفيع المستوى في تركيا مسألة قيمة للغاية للقيادة العسكرية لـ«حماس»، وهي تسعى جاهدة للحفاظ على هذا المنفذ، لأنه سيكون قوة مضاعفة في استمرار تسليحها.
من ناحية أخرى، هناك الغاز داخل بحر غزة، وهذا ما تتطلع إليه تركيا لنفسها ولتصديره إلى أوروبا.
ومع البيانات السياسية، والتعيينات، والأفعال والأنشطة على الأرض، فإن تركيا إردوغان تؤكد للاتحاد الأوروبي أن لديها خيارات أخرى. ومع احتفاظه بجميع الأوراق على الطاولة، فقد قال الرئيس التركي، الأسبوع الماضي، إنه لم يغلق الباب بعد على الاتحاد الأوروبي، لكن أصبح من الواضح جدًا، أنه يأخذ 80 مليون نسمة في طريق مختلف.
هنا تبرز عضوية تركيا في الحلف الأطلسي. فإردوغان الإسلامي ظهر بقوة بعد فشل مؤسسة سياسية علمانية مهترئة، ونادرًا ما يفوّت الفرصة لإلقاء اللوم في التحديات التي تواجهها تركيا والشرق الأوسط الكبير، على قوى خارجية، ملمحًا بالتحديد إلى جهات غربية يتهمها بأنها تريد شد بلاده إلى الوراء.
الآن وصل إلى سدة الرئاسة الأميركية دونالد ترامب، وأعاد التركيز على المؤسسة الأمنية التي تتخوف من الإسلام الراديكالي. بنظر تركيا فإن إدارة أميركية بهذا التفكير تحتاج إلى الاعتماد على التعاون مع حكومة «إسلامية معتدلة» كحكومة إردوغان. صار معروفًا عن إردوغان رغبته في الحصول على قالب الحلوى وأكله كله. لم ينجح حتى الآن في أي من محاولاته. هو يركز على «حماس» في الوقت الذي يتقبل أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي في أنقرة. إردوغان يهمه التخلص من كل القيود الدولية، إنما في محاولته إدارة ظهره لأوروبا، تظل أنظاره شاخصة إلى التزام الإدارة الأميركية الجديدة بالحلف الأطلسي.
كدولة في الحلف، مع قوات تقاتل في العراق وسوريا والمحافظات الجنوبية – الشرقية، من حق تركيا أن تتساءل عن مدى التزام ترامب، بعدما رأت انكماش إدارة باراك أوباما عن الشرق الأوسط، خصوصًا أن «المرشح» ترامب قال إنه إذا لم يلتزم كل الأعضاء بواجباتهم ودفع 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يشكك في صحة هذا التحالف. وحسب أحدث تقارير الحلف، فإن الملتزمين هم فقط: اليونان، والمملكة المتحدة، وبولندا، وإستونيا.
إنه باب مقلق جديد يُفتح بوجه تركيا. لكن يجب ألا يكون هذا الطلب مفاجئًا من قبل رئيس أدار حملته على أساس «أميركا أولاً».
حتى الآن، يمكن لإردوغان أن يتنفس الصعداء، فهو صد أوروبا، مع استمراره بتهديدها بإطلاق اللاجئين إلى حدودها، وقد يشعر بأن الحصار الذي لحق بتركيا في ظل إدارة أوباما، التي ركزت على حقوق الإنسان وسيادة القانون، سيخف، ربما بنظره وعلى المدى القصير، وسيكون هذا مهمًا جدًا لتركيا في ظل رئاسة ترامب. لكن، إذا كان هدف ترامب «داعش» والإسلام الراديكالي، فهل سينقذ تركيا الانضمام إلى منظمة «شانغهاي»؟! وهل ستقبل روسيا بتسليح وتدريب شركة «سادات» لحركة «حماس»، أم أن تركيا يمكنها أن تتحول من دور المدرب والمسلح إلى دور الوسيط لاحقًا مع «حماس»؟! وحتى تتحقق أهدافه، وهي كثيرة ومتشابكة، سيظل الرئيس إردوغان يختبر باحثًا عن سياسة مستقرة تمكنه من السير عليها!
هدى الحسيني
صحيفة الشرق الأوسط