لا أريد لهذا الحديث أن يخوض في موضوع العلاقة السياسية بين كوبا والوطن العربي، فذلك شأن يخص المتعمقين في العلاقات الدولية، ولست منهم؛ وما يهمني طرحه في هذا الحديث يتعلق بشخص الزعيم الكوبي، وأمثولته التي استوعبتها شعوب كثيرة في أمريكا اللاتينية، وفي إفريقيا، وآسيا، باستثناء العرب.
وأستطيع القول إن أغلبية العرب، إن لم يكونوا جميعاً، يقدّرون كاسترو ويعجبون بشجاعته، واقتداره على التحدي للقوة العظمى في العالم المعاصر، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحويل ذلك التقدير والإعجاب إلى أمثولة، أو قدوة يفيدون منها في مواجهة أعدائهم، وتحدي أطروحات أولئك الأعداء، وأجنداتهم التي جعلت الوطن العربي يفشل في إقامة دولته الواحدة (الولايات العربية)، أو يتجاوز محنة التخلف والسير إلى الوراء بدلاً من الاتجاه إلى المستقبل، ويواصل تحدي المعوقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ما الذي تساوي كوبا مقارنة بالوطن العربي؟ ما هي إمكاناتها، وما عدد سكانها؟ لكن كيف استطاعت أن تتحدى وتحافظ على سيادتها وقرارها الحر المستقل، وهي بالنسبة للقوة العظمى أقرب من حبل الوريد؟ أسئلة في غاية الوضوح لا لبس فيها ولا تعقيد، ويستطيع الإجابة عنها تلميذ في المرحلة الابتدائية، ولكننا لم نفكر في طرحها على أنفسنا حتى الآن.
لقد حظيت كوبا بقيادة سياسية مخلصة لا تعرف المساومة في قضايا الحرية والسيادة الوطنية. قيادة غير قابلة للارتهان، والتفريط في حقوق مواطنيها في الكرامة، بوصفها القيمة الموازية لوجود الإنسان على هذه الأرض. كما اتصفت قيادة كاسترو لبلاده بالشعبية التي وحّدت بينه وبين شعبه. وما كان له أن ينال تلك المكانة إلاّ بتلك الشعبية التي جعلته يتحرك ويفكر كواحد من مواطنيه، لا يعزل نفسه عنهم، ولا يفضّل نفسه على أحد منهم، يأكل مما يأكلون، ويلبس من نوع الثياب التي يلبسون. وحين تقتضي الضرورة التزام التقشف يكون أول المتقشفين.
تلك هي أمثولة كاسترو، لم يكن أسطورة كما كتب كثيرون، بل إنساناً عرف كيف تكون مواقفه تجسيداً وتعبيراً عن رغبات مواطنيه، لا عن رغباته هو، ولم يكن الفكر الذي اعتنقه دليله في هذا السلوك الإنساني الراقي، فقد كان هناك العشرات من حكّام وقادة كانوا يعتنقون الفكر نفسه، إلاّ أنهم لم يحرموا أنفسهم من أطايب العيش وملذات الحياة. وسبق لي أن استمعت إلى عدد من سفراء بلادنا الذين عملوا في كوبا، وعدد من رؤساء الوفود الذين ذهبوا إلى تلك البلاد في مهام سياسية، وهم يتحدثون عن المآدب الرئاسية المتواضعة جداً التي كانت تقل عما تقدمه لهم الفنادق الكوبية، وهو قليل أيضاً، ولا يساوي شيئاً مما تقدمه فنادق أكثر الدول النامية تقشفاً.
وعندما يشعر المواطن في أي بلد، بهذا المعنى الكبير والعملي للمساواة، فإنه سيكون في غاية الرضا والشعور بصوابية التضحية، ودلالتها المادية والمعنوية. ومن هنا جاء ذلك التماسك الشعبي والإصرار على مواجهة العدو، مهما كانت قوته واتساع نفوذه.
وفي لقاء لي مع كبير أطباء العظام في كوبا، أثناء زيارة قصيرة له إلى صنعاء لتفقد أحوال البعثة الطبية الكوبية العاملة في اليمن، كان اللقاء الأول به على مائدة غداء أقامها وزير الصحة آنذاك (2010م)، واللقاء الثاني في منزل الوزير، لم أسأل عن عدد الرؤساء العرب وغير العرب الذين تولى معالجتهم، فذلك لا يهمني، ولا يعنيني، وإنما سألته عن شخصية كاسترو وعلاقته بالشعب الكوبي، فقال: هو واحد منا، وقد تركز حديث الطبيب بعد ذلك على دور كاسترو في بناء الاقتصاد، وقال: لأن بلادنا صغيرة، وفقيرة الثروات الطبيعية فقد تمحورت اهتمامات كاسترو في إعداد الإنسان ليكون الثروة البديلة، وأسفر ذلك الاهتمام عن آلاف الأطباء، وآلاف المهندسين، وآلاف المؤهلين في تخصصات أخرى، وأغلب هؤلاء يعملون في أنحاء العالم، وصلتهم ببلادهم تقوى كلما طالت إقامتهم في الخارج، وأطالوا المقارنة بين قيادتهم الوطنية وقيادات بعض الشعوب التي يعملون فيها. وتساءلتُ بعد ذلك الحديث ما الذي كان يمنع العرب من أن يأخذوا بالمنهج الكوبي في هذا المجال؟ علماً بأن وطننا العربي لا تنقصه الأيديولوجيات، ولا الشعارات، وإنما تنقصه القدوة والعمل، وكان في ما فعله كاسترو قدوة طيبة، وأمثولة حسنة.
د. عبدالعزيز المفالح
صحيفة الخليج