عندما اندفعت قوات الثوار إلى مدينة حلب، التي كانت في ذلك الوقت أكبر مدينة في البلاد، في صيف العام 2012، فقد أملوا في تأسيس مركز بديل للسلطة، والذي يمكن أن ينافس مركز سلطة الحكومة في العاصمة دمشق. لكن تلك الآمال سرعان ما تلاشت عندما وصلت عملية الاستيلاء على المدينة إلى طريق مسدود. وقد استطاع الثوار الاستيلاء على نصف حلب فقط، قاسمين بذلك المدينة إلى قسمين. وتبعت ذلك حالة جمود مميتة.
الآن، أصبحت آمال الثوار بأن يتمكنوا في أي وقت من إنهاء هذه الحالة من الجمود ميتة بدورها. ففي تموز (يوليو) قطعت القوات الموالية للحكومة السورية آخر طريق متبق إلى الشرق، وفرضت حصاراً خنق الحياة في حلب ببطء. وقامت الطائرات الروسية والسورية بلا كلل بقصف المشافي، والمدارس والأسواق، لتشل بذلك البنية التحتية للمدنية. وبعد أن أصبح شرق حلب راكعاً على ركبتيه، شن النظام هجوماً برياً مدمراً يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) لطرد قوات الثوار إلى خارج المدينة.
منذ ذلك الوقت، فقد الثوار نحو ثلاثة أرباع جيبهم هناك، وهو آخر معقل حضري كبير تبقى لهم في البلاد. وقد انهار دفاعهم عن المدينة أسرع مما توقع الكثيرون. والمدينة القديمة، التي كان يفترض الدفاع جيداً عن أزقتها المتعرجة، سقطت سريعاً في الأسبوع الماضي، بينما اندفعت القوات الموالية للحكومة السورية، بما فيها الميليشيات الشيعية القادمة من العراق ولبنان، مخترقة خطوط الثوار يوم 7 كانون الأول (ديسمبر). وبعد أن أصبح الثوار محشورين في الزاوية أمام القوات الموالية للحكومة، أصبحت الهزيمة حتمية لا مفر منها.
بعد أربع سنوات من القتال الطاحن في المدينة، والذي قتل الآلاف من المدنيين ودمر أجزاء واسعة من المدينة القديمة، يواجه الثوار الآن خياراً قاسياً: الموت وهم يقاتلون، أو تسليم الجيب والأمل في القتال في مكان آخر. في العلن، ما يزال مقاتلو الثوار وساسة المعارضة يحتفظون بالخطابة الحربية، متعهدين بالقتال حتى آخر رجل بدلاً من الاستسلام للحكومة التي يحتقرون. وقد دعوا إلى وقف لإطلاق النار لمدة خمسة أيام لإخلاء المدنيين والمئات من الجرحى قبل مناقشة مستقبل المدينة، لكن القتال ظل مستمراً.
أما في المستوى غير المعلن، فكان مسؤولو الثوار يلتقون بالدبلوماسيين الروس في تركيا لمناقشة انسحاب كامل من حلب. وبوساطة أنقرة، عُرض على الثوار خياران: إنهم يستطيعون إما الاتجاه جنوباً إلى مدينة إدلب التي يسيطر عليها الثوار، آخذين معهم الأسلحة الخفيفة فقط؛ أو أنهم يستطيعون الاتجاه شمالاً مصطحبين معهم أسلحة أثقل، للانضمام إلى وحدات الثوار الأخرى التي تقاتل إلى جانب القوات التركية ضد “داعش” والقوات الكردية.
وكانت صفقات مشابهة في الأشهر الأخيرة قد شهدت إخلاء مقاتلي الثوار من مناطق محاصرة أخرى. وصرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في الأسبوع الماضي أن الدبلوماسيين وخبراء الجيش من أميركا وروسيا سوف يلتقون في جنيف حول نهاية الأسبوع للاتفاق على تفاصيل خروج الثوار من حلب. ومن دون التوصل إلى اتفاق، سوف تتصاعد وفيات المدنيين بسرعة، حيث يتم دفع الناس إلى مساحات تتقلص باطراد. وكانت روسيا والحكومة السورية قد قالتا بشكل متكرر إنهما سوف تستمران في قصف حلب حتى تنسحب قوات الثوار منها.
لكن الثوار يظلون متشككين بعمق في نوايا نظام قام روتينياً باعتقال وتعذيب وإعدام أولئك الذين يتهمهم بمساعدة “الإرهابيين”، بمن فيهم الأطباء والمعلمون. وتقول الأمم المتحدة إن مئات من الرجال قد اختفوا مسبقاً، بعد أن فروا إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة مع عشرات الآلاف من الآخرين اليائسين للهرب من القتال. وقال متحدث باسم الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان يوم 9 كانون الأول (ديسمبر): “بالنظر إلى السجل الرهيب للاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري، فإننا نشعر بقلق بالغ بطبيعة الحال أزاء مصير هؤلاء الأفراد”.
ما يزال مئات الناشطين، وعمال الإغاثة، والمستشارون وعمال الإنقاذ والأطباء الذين تلقوا الدعم من الغرب، عالقين بين نحو 100.000 من المدنيين الذين تبقوا في شرق حلب. وقد استسلمت منظمة الخوذات البيضاء، التي تعمل في سحب القتلى والجرحى من تحت الأنقاض بعد الغارات الجوية، وطلبت الإخلاء الفوري لعمالها. وقالت المجموعة في بيان لها: “إذا لم يتم إخلاؤنا، فإن متطوعينا يواجهون خطر مواجهة التعذيب والإعدام في مراكز اعتقال النظام. لدينا أسباب وجيهة للخوف على أرواحنا”. وفي إشارة إلى مدى قرب جيب الثوار من الانهيار، بدأت منظمة الخوذات البيضاء بتدمير معداتها للإنقاذ، حتى لا تقع في أيدي النظام.
في حين تتواصل المحادثات حول مصير المدينة، تدهورت الظروف في جيب الثوار المتقلص بسرعة كبيرة. ويقول الأطباء هناك إنهم يستطيعون تقديم الإسعافات الأولية فقط. كما عثر عمال “الصليب الأحمر” الذين يعملون في المناطق التي استولى عليها النظام حديثاً على أجساد ميتة عالقة تحت الأنقاض، ووجدوا أطفالاً أيتاماً لم يأكلوا طوال يومين. ويعاني الخبز هناك من نقص في المعروض.
بينما يتداعى الجيب الذي ما يزال تحت سيطرة الثوار، تصبح الآمال بأن يسعى بشار الأسد إلى التفاوض على نهاية للصراع الأوسع باهتة أكثر من أي وقت مضى. وقد تعهد الرئيس الأسد مراراً باستعادة البلد كله. وفي حين ما تزال مناطق كبيرة من سورية خارج سلطته، فإن سقوط حلب سوف يمنح الرئيس الأسد سيطرة على كل المراكز السكانية الرئيسية في البلاد، وسوف ينقله خطوة أقرب إلى تحقيق هدفه. وكان قد قال في الأسبوع الماضي: “حتى لو أنهينا في حلب، فإننا سنواصل الحرب ضدهم”.
أمام هذا الواقع، ما يزال الغرب والعالم السني عاجزين، غير قادرين –أو غير راغبين- في مساعدة السكان المدنيين أو فصائل الثوار التي يدعمونها في حلب. وقد صوتت روسيا والصين مرة أخرى في الأسبوع الماضي ضد مطالبة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بوقف لإطلاق النار. وبينما لا يعرض باراك أوباما الذي سيغادر منصبه قريباً أي ميل إلى التدخل، فإن خسارة حلب أصبحت وشيكة.
صحيفة الغد