لو راجعنا كيفية وصول الأحزاب الإسلامية لحكم العراق لوجدنا أن من بين أسباب وجود تلك الأحزاب في الواقع السياسي العراقي بعد العام 2003 هي سياسة النظام السابق التي منعت العمل السياسي الحر، حيث كان بالإمكان قيام أحزاب وحركات مختلفة كان أضعفها التيار الديني وبينها حزب الدعوة الإسلامي والحزب الإسلامي العراقي، لكن مشروع الاحتلال الأميركي اختار بعناية مدروسة أحزاب المعارضة الشيعية، وأهمل التيار الليبرالي العروبي في تلك المعارضة على الرغم من أن الراحل أحمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي وهو مظلة جميع الأحزاب والتجمعات في ذلك الوقت، كان ليبرالياً حتى تحوله إلى الطائفية السياسية بعد احتلال بغداد واتهامه بالعلاقة المخابراتية مع إيران، كما أن إياد علاوي كان رئيسا لحركة الوفاق الليبرالية، إضافة إلى الحزب الشيوعي ومجموعة شخصيات عراقية عروبية مدنية وعسكرية كثيرة.
كان القرار الأميركي الذي صنعه لوبي الفوضى الخلاقة اليميني، هو الابتعاد عن كل ما هو علماني وليبرالي عروبي، لأنه لا يتوافق مع توجهات تلك الفوضى الساعية إلى خلق صراع طائفي عرقي لتفكيك المجتمع العراقي وإعادة بنائه على الأسس التي وجدناها في مؤتمر لندن للمعارضة نهاية العام 2012 وقيام مجلس الحكم بعد عام 2003 في بغداد.
أمام ذلك القرار الأميركي المدعوم باجتياح واحتلال عسكري، لم يكن أمام القوى الليبرالية العراقية سوى الرضوخ لسياسة “الأمر الواقع” من قبل الحاكم بول بريمر والأحزاب التي وجدت نفسها فجأة تتربع على كرسي حكم العراق.
ولعل بعضها، وخصوصا حزب الدعوة، لم يكن متوقعا هذا التطور السريع في تسليمهم السلطة، ويتذكر الجميع كيف أصدر حزب الدعوة في لندن بقيادة إبراهيم الجعفري إلى جانب الحزب الإسلامي العراقي ومنظمة حزب البعث السوري في بريطانيا بيانا استنكاريا لمشروع اجتياح العراق الذي بدأ التبشير به أواسط عام 2002، وكذلك الاحتجاج على الخطوات التحضيرية لمؤتمر لندن للمعارضة العراقية.
بل إن قيادة الحزب الشيوعي العراقي وهو الأكثر ليبرالية عن غيره وله تاريخ وطني طويل، اضطر أمينه العام للدخول في اللعبة البرلمانية على قائمة شيعية ليتمكن من الحصول على مقعد في البرلمان.
وانطلاقا من الاتهامات الموجهة لحزب البعث بأنه “صدامي” ومسؤول عن جميع الارتكابات ضد المواطنين، فقد تم اجتثاثه دستوريا، فكان من الطبيعي أن تنشأ عناوين لكتل انتخابية جديدة لا تمتلك مقومات الأحزاب السياسية التقليدية، ساعدتها في ذلك سذاجة قانون الأحزاب الذي صدر قبيل أول انتخابات عراقية.
اشتغلت الأحزاب الدينية وفي مقدمتها حزب الدعوة لكونه الحزب المنظم الأكثر نشاطا من الكتل الشيعية الأخرى على نظرية “فرض الأمر الواقع” التدريجي في إدارة العملية السياسية، خصوصا لانعدام التجربة السياسية وسيادة عقلية المعارضة.
وقد خدم قانون “اجتثاث البعث” الذي قرره بول بريمر تلك الأحزاب ومهد الطريق أمامها في سد الفراغ الشعبي والسياسي الذي تركه حزب كان يعتبر نفسه مليونيا، أغلب أنصاره هم اليوم أنصار للأحزاب الشيعية الحاكمة التي كانت بحاجة إلى هذا الجمهور بواسطة استثمار العاطفة الشعبية المذهبية التي كانت مكبوتة عند الكثيرين لكي تنقلها إلى ولاء لتلك الأحزاب.
كما استثمرت بذكاء لعبة المحاصصة الطائفية لتوزيع حصص السلطة عبر ما أطلقت عليه “الشراكة” على أساس الأغلبية والأقلية الطائفية، وهي معادلة لم يكن العراقيون يعرفونها في بلدهم، ولم تدعمها إحصاءات سكانية حيث لم يسجل الجنس الطائفي في ثبوتيات الأحوال المدنية العراقية.
وجرت مخادعة كبيرة في تركيبة نظام الحكم في الفترة الأولى عام 2005 مهدت لسياسة “فرض الأمر الواقع” حيث تمت الهيمنة على السلطة تحت عنوان “الشراكة”، في حين أن جميع المفاصل الحكومية والسياسية والأمنية قد تم الاستحواذ عليها من قبل حزب الدعوة وحلفائه من التيار الصدري ومجلس الحكيم والتنظيمات الصغيرة الأخرى. وكانت تلك وسيلة لإبعاد مسؤوليات سلطة الحكم في ما بعد، وتوزيع الفشل على جميع المنتسبين إلى الحكم وليسوا المشاركين خصوصا عند العرب السنة، لأن للأكراد وضعهم الخاص في الاتفاق الاستراتيجي الكردي الشيعي، وكذلك التركمان.
من هنا لم يتم بناء صرح سياسي ديمقراطي يعتمد على المشاركة السياسية والشعبية وفعالياتها في النقابات ومنظمات المجتمع المدني إلا نادرا، بل كانت الديمقراطية محصورة في طقسها الانتخابي. وسياسة التوافق لم تنفذ في القرارات الجوهرية، حيث سادت الترضيات خصوصا لدى من يدعون تمثيل العرب السنة في العملية السياسية، وهم جميعا لم يتبنوا مواقف مبدئية يدافعون عنها لكي لا تطيح بمكتسباتهم، خصوصا أن بعض قادة تلك الأحزاب كانوا يهددون أولئك السنة المشاركين بملفات فضائح متنوعة ما بين الفساد والإرهاب.
الأحزاب الشيعية كانت تعلم هذه الحقيقة وتتعامل وفقها لتحقيق فرض الأمر الواقع مع منح جزئيات محلاة لا تمس الثوابت الرئيسية لسياسة تلك الأحزاب، فقد كانت القرارات الكبرى تتخذ داخل أروقة البيت السياسي الشيعي ويتم تسويقها للكتل الموجودة داخل البرلمان.
وكانت شكاوى “سنة البرلمان والحكومة” محاولة الحصول على مكاسبهم تحت عناوين التوازن في المناصب الثانوية من غير الأعمدة الطائفية الثلاث (رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة) وهي ليست دستورية، بل وفق مقولة “التوافق” التي انتهى عهدها أخيرا في قانون الحشد الشعبي الذي تم وفق الأغلبية الشيعية داخل البرلمان أخيرا.
ولولا موضوع الأكراد الذي ظل ومازال يحمل خصوصيته لكان الأفضل للعراقيين أن يتم الإعلان الرسمي بحكم الأحزاب الشيعية للعراق وهو حاصل فعلياً، لكي تكون وجها لوجه أمام المسؤولية الشعبية والوطنية العليا.
ولقد كان نوري المالكي حين كان رئيسا للوزراء لثماني سنوات ورئيس حزب الدعوة أكثر جرأة من غيره في الإعلان بوقت مبكر عن ضرورة فض الشراكة الكاذبة والذهاب إلى الأغلبية السياسية وتعني الطائفية، لكن يبدو أن توقيتات فرض الأمر الواقع لم تحسب بدقة لصالح مكانة تلك الأحزاب، خصوصاً ما حصل في العراق من كوارث الفساد والأزمات وانعدام الأمن وغياب الاستقرار السياسي بفعل الصراعات الداخلية والخارجية٬ وهو ما لم تنتج عنه في النهاية مسيرة سياسية رصينة ومتينة تقود إلى إقامة مجتمع مدني وأحزاب سياسية قوية ومؤثرة. وعزز من حالة الصراع دور سلبي مارسته بعض الأحزاب العراقية على صعيد ارتباطها بالخارج وغياب المصداقية في شعاراتها وبرامجها.
فقد فشلت جميع الأحزاب في تحقيق مطالب الشعب بالحياة المدنية الحديثة وتوفير الحد الأدنى من الخدمات.
ولعل ظروف مرحلة احتلال داعش للعراق 10 يونيو 2014 وما ستؤول إليه الأوضاع بعد معركة الموصل ستفرض خيارا جديدا أمام الأحزاب الشيعية يتوقع لها أن تنتقل إلى مرحلة الإعلان المباشر لقيادة البلد، رغم المشكلات الداخلية لتحالف تلك الأحزاب، وبروز قوى أيديولوجية جديدة لها جناحها العسكري المهم الحشد الشعبي ولن تترك الفرص السياسية لغيرها من خارج تلك الأحزاب والمنظمات بتقاسم السلطة، بل سيجري العمل على انصهار بعض سياسيي العرب السنة من الخط الثاني تحت ظل الإطارات الجديدة، ويتم التخلي عن الديكورات السنية إلى حين الانتخابات المقبلة.
وليس دقيقا ما يقال في الإعلام من أن المرحلة المقبلة ستحقق انفراجا للأزمة السياسية، فما تقوله قيادات الأحزاب الحاكمة أن الأزمة هي في ما تسميهم الشركاء الذين لهم رجل بالحكومة ورجل بالمعارضة ويريدون منهم أن يحسموا أمرهم.
ولهذا فإن مشروع التسوية السياسية الذي يقوده رئيس التحالف الشيعي عمار الحكيم هو تعبير عن قيادة الأحزاب الشيعية للدولة والقبول بالأمر الواقع والانصياع للدستور وللعملية السياسية ورفض البعثيين والإرهابيين، ورغم ذلك يلاقي هذا المشروع رفضا من بعض الأحزاب الرئيسية، وهو مشروع خال من أي قواعد للمصالحة الوطنية الحقيقية، بل هو نشاط في العلاقات العامة لن يؤثر في سياسة فرض الأمر الواقع التي تقود إلى الاستبداد الحزبي والدكتاتورية الطائفية، بدلا عن الحوار والقبول بالآخر الوطني غير القائم على الإذعان لعملية سياسية ثبت فشلها الكامل بالعراق، كما أنها سياسة لا تقيم عدلا ولا تبني أوطانا.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية