لم يعد “الإرهاب الديني” في صدارة الأنماط الأكثر شيوعًا للإرهاب في العالم؛ إذ تصاعدت موجة جديدة من “الإرهاب العشائري” ترتكز على الدوافع الاجتماعية والنفسية للأفراد، وهو ما تناولته دراسة “جيفري كابلان”، الأستاذ المتخصص في دراسات الدين والأنثروبولوجي في جامعة ويسكنسن – أوشكش بالولايات المتحدة الأمريكية.
وأشارت الدراسة إلى صعود “العشائرية الجديدة” كموجة خامسة للإرهاب تتجاوز الإرهاب الديني الذي كان سائدًا في تسعينيات القرن الماضي. وقد تم نشر هذه الدراسة كفصل ضمن الكتاب المحرر والمعنون “الدين الراديكالي والعنف: نظرية وحالات الدراسة”، الصادر عام 2016 عن دار نشر روتليدج Routledge.
صعود الإرهاب التطهيري:
اعتمدت دراسة “جيفري كابلان” على نظرية موجات الإرهاب التي قدمها “ديفيد رابورت” التي تشير إلى وجود أربع موجات من الإرهاب تتصدرها موجة الإرهاب الفوضوي، والتي تبعتها موجة الإرهاب الموجه ضد الاستعمار، ثم الإرهاب الاشتراكي الجديد، أما الموجة الرابعة فتمثلت في الإرهاب الديني الذي تصاعد في تسعينيات القرن العشرين.
وتُعد الموجة الخامسة من الإرهاب موجة محلية وليست دولية، حيث تضم جماعات قائمة على الانتماءات العرقية والإثنية، لذا وصفها الكاتب بأنها تمثل نوعًا من “العشائرية الجديدة”، ويفرض ذلك الأخذ في الاعتبار السياقات والظروف الداخلية أكثر من التركيز على الظروف الدولية عند دراسة هذه الموجة من الإرهاب.
وتسعى جماعات الإرهاب القبلي الجديد إلى خلق عالم جديد مثالي يعيش فيه الأفراد غير الملوثين من العالم القديم، بحسب وجهة نظرهم، ولذا توظف تلك الجماعات القتل على نطاق واسع كمبرر لتحقيق الغاية المثلى لخلق عالم جديد تحكمه أفكارهم ومعتقداتهم، كما يمثل الأطفال فاعلا مركزيًّا في الموجة الخامسة، حيث يتم جمع الأطفال في سن مبكر، وعزلهم عن العالم الخارجي، لتنشئتهم كأفراد جدد يصلحون للعالم المثالي الذي يسعون إلى خلقه، ولذا فهي جماعات معزولة عن المجتمع وعن شبكات الأسرة والعائلة والمدرسة.
ووفقًا لكابلان، نشأت جماعات الموجة الخامسة من رحم موجات سابقة للإرهاب نتيجة وجود حدث تاريخي أو أزمة، ويرى الكاتب أن جماعة “الخمير الحمر” في كمبوديا مثّلت النواة للموجة الخامسة من الإرهاب، بيد أن سمات هذه الموجة قد ظهرت بشكل واضح في جماعة “جيش الرب” الأوغندي في التسعينيات. ولا يمكن الادعاء أن الخمير الحمر مثلت نموذجًا للموجة الخامسة من الإرهاب بقدر ما كانت تُمثل بداية وضع السياقات والأطر الثقافية التي لا تزال الحركات الأخرى داخل الموجة الخامسة تتبعها.
وفي هذا الإطار، يجب الإشارة أن إلى نشأة “جيش الرب” في أوغندا عام 1987 على يد “جوزيف كوني” منشقًّا عن حركة “الروح المقدسة” التي أنشأتها “أليس أوما Alice Auma” التي ادعت أن روحًا مقدسةً خاطبتها بتخليص قبيلة أشولي في أوغندا من الفقر والظلم والمجاعات والأمراض.
وبعد هزيمة الحركة، تبنى أفكارها “جوزيف كوني” الذي ادعى مخاطبته أيضًا من قبل روح مقدسة لإنقاذ قبيلة أشولي، ثم أنشأ “جيش الرب” الذي نما في بيئة من الفوضى واليأس، وبعد رفضه من قبل سكان قبيلة أشولي، أصبح “جيش الرب” أكثر راديكالية، وقام بأعمال عنف وخطف واغتصاب، وأضحى بذلك جزءًا من الموجة الخامسة للإرهاب التي تتبنى الفكر التطهيري.
موجة انعزالية:
تتكون الموجة الخامسة من جماعات معزولة ماديًّا ومعنويًّا عن محيطها الاجتماعي؛ حيث يتضح الانعزال في حالة “الخمير الحمر” على سبيل المثال في كون معظم قادتهم تعلموا في فرنسا، وتواصلوا مع العديد من الثقافات، بحيث أصبح الاتصال مع أبناء دولتهم من نفس الطبقة من الأمور شديدة الصعوبة، لذا تركوا حياتهم الطبيعية وعاشوا حياة المتمردين.
وتظهر هذه الرغبة الانعزالية بشكل أكثر وضوحًا مع “جيش الرب الأوغندي”، حيث فضل المنتمون إليه الابتعاد والانعزال عن أبناء قبيلتهم أشولي بسبب اعتقادهم أن ما تمارسه قبيلتهم من أفعال هي السبب الرئيسي في الدمار والخراب الذي يحيط بهم.
وتهدف الجماعات الإرهابية للانعزال من أجل خلق “عالم جديد” مع أشخاص جدد وعقول وقلوب جديدة غير ملوثة. وفي هذا الإطار اعتمد “الخمير الحمر” تقويمًا جديدًا خاصًّا بهم يوافق عامه الأول العام الذي تم إنشاء الجماعة فيه، كما رأى جيش الرب قائده “كوني” بطلا جاء لإنقاذ الأشولي، وخلق عصر جديد، لكنهم لم يعتمدوا تقويمًا جديدًا.
وعلى الرغم من أن بعض جماعات الموجة الخامسة يتم دعمها من قبل جهات خارجية، إلا أنها تتقبل هذا الدعم من أجل استمرارها دون أن يعني ذلك قبولها التعاون الدائم مع هذه الجهات، فهذه الجماعات تركز على مسألة النقاء العرقي والتعصب الإثني والقومية.
فالخمير الحمر تحالفوا مع الحزب الشيوعي الفيتنامي والقادة الصينيين، وبمجرد وصولهم للسلطة قاموا بإبادة ما يقارب 450 ألف من الفيتناميين و225 ألف من الصينيين بجانب الأقليات الأخرى، حيث كانت هناك حملة ممنهجة لإزالة ما أسموه “الشوائب الخارجية”. ولم يختلف عنهم “جيش الرب” كثيرًا، ولكن كانت فرصته أقل في تنفيذ استراتيجية التطهير الخاصة به مقارنة بالخمير الحمر.
سمات الإرهاب العشائري:
تتمثل أهم خصائص الإرهاب العشائري الجديد فيما يلي:
1- التطهير من الشرور: حيث يؤمن أتباعها بأن العالم القائم هو مصدر تدنيس يجب تجنبه إلى حين الوصول إلى عالم نظيف نقي وجديد، ولذا يجب قتل المصابين من ذلك العالم الملوث لتحقيق المصلحة الكبرى للجنس البشري، لذا ظهرت عمليات الإبادة الجماعية.
فعلى سبيل المثال، قسم الخمير الحمر الشعب إلى شعب أصلي وهم “الريفيون”، وشعب جديد وهم سكان الحضر، مضافًا إليهم الأجانب والأقليات العرقية والمشتبه بهم سياسيًّا، والفئة الثانية يجب إبادتها. وبعد عمليات الإبادة، أصبح هناك تقسيم آخر في عام 1976 وهو “شعب ذو حقوق كاملة” تليه “فئة المرشحين” وهم المشكوك في أنهم ما زالوا يحملون العيوب الوراثية للعالم القديم ولكن يمكن إنقاذهم، والفئة الثالثة هم “المودعون” وهم الحضر الذين تمت إعادة توطينهم في الريف.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق ما أطلقوا عليه (boh smat)، وهو ما يعني باللغة المحلية للخمير الحمر “تطهير المجتمع”. كما أن “جيش الرب” الأوغندي كان يؤمن بوجود الخطيئة نتيجة أفعال البشر، لذا وجب التطهير من أجل صد روح الشر. وبمراجعة أفكار التطهير لدى إرهابيي الموجة الخامسة يتضح أن بعضها مستمد من تفسيرات الكتاب المقدس، وبعضها مستمد من الإسلام، وبالتحديد من الجماعات الإسلامية السودانية، وإن كانت بنسب أقل.
2- عالم مثالي جديد: يؤمن المنتمون للموجة الخامسة بالكمال البشري، وضرورة إنشاء عالم يوتوبي على الأرض، وذلك عبر خلق رجال ونساء جدد لعصر جديد، وقد حاولت جماعة “الخمير الحمر” تحقيق ذلك حينما طردت السكان من المدن، وانتظرت بناء دولة عظيمة تصبح نموذجًا لباقي الدول، واستخدموا كل وسائل السجن والتعذيب للمعارضين، وخاصة الأقليات الدينية والعرقية.
كما سعى “جيش الرب” إلى بناء مجتمع جديد، ولذا استخدم آلية الإبادة والقتل من أجل عالم جديد سوف يُبنى من الأطفال المختطفين لكي يتم إنقاذهم من العالم القديم.
كما أن التركيز المكثف على مفهوم “النقاء” جعل عملية تسوية الخلافات الداخلية مستحيلة لدى جماعات الموجة الخامسة، فالشخص المختلف معهم على المستوى الداخلي هو شخص ملوث يجب التخلص منه وإبادته.
3- مركزية النساء والأطفال: كان لدى الخمير الحمر محاربات من النساء، وكانت لديهم منظمات نسائية وقيادات نسائية في الحزب، واتبعت الدولة استراتيجية الزواج القسري الجماعي لجمع الأطفال من أمهاتهم وتربيتهم مجتمعين، لأنهم شعروا بالأخطار الإقليمية والدولية، لذا رأوا أن خلق مجتمع جديد في سياق عدائي يتطلب نموًّا سكانيًّا.
كما يتم استخدام الأطفال وتوظيفهم كجنود، كما فعل “جيش الرب” بنسبة قدرت بحوالي 90% من إجمالي مقاتلي جيشه، وبناءً على ما سبق فإن المرأة تُعد فاعلا مركزيًّا لدى جماعات الموجة الخامسة، ولا يعني ذلك أنهم يقومون بالإعلاء من قيمة المرأة، بل باستخدام المرأة بصورة نفعية محضة، فبدونها لا يمكن إنجاب أطفال غير ملوثين. وقد جعل القتل والاغتصاب أعضاء الموجة الخامسة غير مقبولين في المجتمع، ولا يمكنهم العودة لديارهم مرة أخرى، مما يجعلهم جماعات دائمة لها أجيال متعاقبة.
3- القيادة الاستبدادية الكاريزمية: تعتمد تلك الجماعات على القيادات الاستبدادية الكاريزمية، وليس قيادة مؤسسية أو جماعية، وذلك دون وجود معارضة، وتمثل ذلك في قيادة “الأخ الأكبر” في حالة الخمير الحمر، كما تمثل في قيادة جوزيف كوني لدى “جيش الرب” الذي استمد قوته من التقاليد الأشولية نتيجة ادعاء كوني مخاطبته من قبل روح مقدسة لإنقاذ الأشولي، بجانب اعتماده على تأويل بعض نصوص الكتاب المقدس في المسيحية وبعض التقاليد الإسلامية.
وإجمالا.. أكد الكتاب أن “العشائرية الجديدة” تتمثل أهم خصائصها في: تراجع أهمية الدين كمحفز للإرهاب، وتزايد أهمية علاقات الترابط الاجتماعي والدوائر الأولية، وتأسيس عالم يوتوبي مترابط اجتماعيًّا، واستغلال التفكك الاجتماعي وإشكاليات الفردية السائدة في العالم الغربي في استقطاب كوادر عبر خلق حالة من الانتماء الزائف وإشباع الحاجات الاجتماعية والنفسية، كما يرون أن العالم في حاجة إلى “التطهير” وهو ما يدفعهم إلى استخدام الإبادة الجماعية للأفراد خارج رابطتهم، مع العزل الاجتماعي لأطفالهم. ومن ثم فمن المتوقع أن تكون الموجة السادسة من الإرهاب أشد عنفًا وأكثر تطرفًا.
المصدر:
Jeffrey Kaplan, The Fifth wave: the new tribalism?, in Jeffrey Kaplan (Editor), Radical Religion and violence: Theory and case studies, London: Routledge, 2016, PP 348-379.
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة