على ضوء حجم العسكرة التي أصبحت عليها وزارة الخارجية الأميركية، ربما يكون معقولاً أن يتحول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، إلى الجنرالات لتشكيل فريقه للأمن القومي. لكن هناك مخاطر في هذا أيضاً.
* * *
ربما لم يقرأ الرئيس المنتخب دونالد ترامب أبداً رواية فليتشر نيببيل وتشارلز بيلي “سبعة أيام في مايو” في العام 1962، ولم يشاهد أبداً نسخة فيلم جون فرانكنهايمر في العام 1964، اللتين تعاملتا مع تهديد قيام انقلاب عسكري بسبب معارضة معاهدة نزع التسلح النووي مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة.
كان الرئيس جون أف. كنيدي قد قرأ الكتاب بعد أزمة الصواريخ الكوبية، ووجد السيناريو منطقياً، ربما بسبب المعارضة والسلوك الغرائبي لرئيس الأركان الجوية، الجنرال كيرتيس لوماي خلال الأزمة. وربما يجب أن يطلع دونالد ترامب على الكتاب أو الفيلم قبل أن يسمي جنرالاً متقاعداً آخر في فريقه للأمن القومي.
في أسابيع قليلة جداً، أحاط ترامب نفسه بمجموعة من المستشارين غريبي الأطوار، وعين عدة شخصيات مشاكسة وحزبية في مواقع رئيسية في الأمن القومي. ونتيجة لذلك، رحبت وسائل الإعلام السائدة بتعيين جنرال البحرية المتقاعد جيمس ماتيس، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز الرزينة. ويبدو إجماع وسائل الإعلام أنه نظراً إلى أن ماتيس، جنرال الأربعة نجوم، تفوق من حيث الرتبة ذات مرة على مستشار الأمن القومي المثير للجدل، الجنرال مايكل فلين، جنرال الثلاثة نجوم، وإلى أنه -على عكس الرئيس المنتخب- يقرأ في الحقيقة ويجمع كتباً، فإنه سيشكل صوت تعقل في دائرة صنع القرار في البيت الأبيض. لكن، لا يجب الذهاب إلى الاستنتاجات سريعاً!
إن ما فعله ترامب منذ انتخابه قبل شهر هو تهديد التوازن الذي تمس الحاجة إليه بين المجتمعين المدني والعسكري في صناعة قرار الأمن القومي، وتهديد السيطرة المدنية على الجيش، وهو الأمر الذي كان قائماً منذ أن جعله الآباء المؤسسون كذلك.
خلال الأعوام الأربعين الماضية، شهدنا الجيش وهو يخسر حروباً في فيتنام والعراق وأفغانستان، بينما راكمت وزارة الدفاع نفوذاً أكبر على السياسة الخارجية. ومنذ تم إنشاء الجيش الذي كله من المتطوعين في السبعينيات، انجرف الجيش بعيداً جداً عن معايير المجتمع الأميركي، وأصبح يمينياً بشكل مفرط من الناحية السياسية، وأصبح أكثر تديناً بكثير (وأصولية) من البلد ككل.
وخلال العقود القليلة الماضية، عارض جهاز الضباط وبنشاط وفعالية خدمة الأميركيين الأفارقة والنساء والمثليين في صفوفه. ويستطيع أي شخص معتاد على الجيش أن يدلي بشهادته على “إضفاء طابع الجمهورية” على جهاز الضباط.
عزز قانون غولدووتر- نيكولاس في العام 1986، والذي كثيراً ما يتم تجاهله، الدور السياسي والعسكري لرؤساء هيئة الأركان الإقليميين، وهمّش وزارة الخارجية والقيادة المدنية لوزارة الدفاع. وأصبح قادة هيئة الأركان الأقليميون أكثر نفوذاً من السفراء الأميركيين، الذين يمثلون فعلاً مصالح الرئيس والعديد من مساعدي وزراء الخارجية المسؤولين عن مناطق العالم الثالث الحساسة.
خلق هذا القانون رؤساء هيئة أركان أقوياء، وجعل رئيس هيئة الأركان المشتركة المستشار العسكري الرئيسي للرئيس. وخلال عملية “عاصفة الصحراء” في العام 1991، عادة ما تجاهل رئيس هيئة الأركان المشتركة وزير الدفاع، وقدم الإيجازات شخصياً للرئيس حول خطط الحرب. ومن الجدير ملاحظة أن القانون مر من مجلس الشيوخ من دون إثارة نقاش أصيل، ومن دون حتى صوت معارض واحد.
دور بيل كلينتون
قدم الرئيس بيل كلينتون إسهامات رئيسية في الإخلال بالتوازن المدني- العسكري في تسعينيات القرن الماضي، عندما ألغى “وكالة السيطرة على الأسلحة ونزع التسلح” و”جهاز المعلومات الأميركي”، وخفض بشكل كبير التمويل الخاص بوكالة التنمية الدولية. كما انحنى كلينتون أمام معارضة وزارة الدفاع عندما انسحب من اتفاقيات دولية كانت تؤيد معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية ومحكمة الجنايات الدولية والحظر على الألغام.
من جهته، مال الرئيس أوباما أيضاَ في اتجاه الجيش من خلال إجراء تعيينات رئيسية في جهاز الأمن القومي. وكان مستشاره للأمن القومي هو جنرال البحرية المتقاعد، جيمس جونز، الذي أخفق بشكل كبير، وكان أول قيصر مخابرات لديه هو الأدميرال دينيس بلير، الذي فشل هو الآخر. وتم استبدال جونز بتوم دونيلون الذي كانت خبرته مقصورة على الشؤون المحلية ولم يستطع التصدي لوزارة الدفاع في موضوع صنع القرارات الخاصة بالعراق وأفغانستان.
صب قرار أوباما غير الحكيم الاحتفاظ بروبرت غيتس وزيراً للدفاع في خدمة مصالح رؤساء هيئات أركان الجيش. وبدا أن الرئيس لم يكن له أي اهتمام بأيديولوجية غيتس في الحرب الباردة، ناهيك عن تسييسه للمخابرات نيابة عن إدارة ريغان طيلة سنوات الثمانينيات. وعندما عين أوباما الجنرال ديفيد بترايوس مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية، اكتملت من الناحية الفعلية عملية عسكرة المجتمع المخابراتي.
خلال رئاسة أوباما، تولت وزارة الدفاع السيطرة على المساعدات الأمنية المقدمة للبلدان الأجنبية، بما فيها الدول الحليفة وراء البحار، التي كانت ذات مرة تحت إشراف وزارة الخارجية. ولوزارة الدفاع سيطرة دائمة على برامج مساعدات من نوع ما، ولديها -بموجب نشاطاتها المضادة للإرهاب في أكثر من 80 بلداً- سيطرة أكبر على خيارات السياسة الأميركية.
ذات مرة، كانت وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية تتحكمان بشؤون المساعدات الخارجية؛ واليوم تتحكم وزارة الدفاع بهذا الشأن. وبدلاً من بناء جيوش أجنبية، تولي وزارة الدفاع اهتماماً أكبر بكثير للمساعدة في ضمان جهوزية القوات الأميركية.
أمام المشاكل الدولية التي ستواجه الرئيس الجديد وفريقه للأمن القومي في عموم الشرق الأوسط والخليج، ناهيك عن العلاقات الثنائية مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، فإن الأمر المقلق فعلاً هو أن هناك جسماً عسكرياً وسلطوياً صرفاً هو الذي سيتخذ القرارات الرئيسية. وهناك دور مهم للمفاوضات والدبلوماسية، بما في ذلك دبلوماسية الإكراه، في كل تحد جيوسياسي من الناحية الفعلية، لكن الرئيس المنتخب لا ينطوي على أي اهتمام في البحث عن الخبرة في هذه المجالات. وعلى نحو مشابه، سوف يتخذ قرارات مهمة عن الإنفاق على الدفاع وامتلاك الأسلحة اعتماداً على المستشارين وأعضاء المجلس الوزاري الذين لم يكن لديهم أبداً موارد مالية كافية أو أسلحة.
ثمة خطر إضافي يكمن في أن الجنرالين فلين وماتيس سيعززان “عقلية الحامية”، فكرة “أميركا القلعة”، التي لدى الرئيس المنتخب، والتي تكون معسكرة استراتيجياً، ويمكن أن تصبح راكدة اقتصادياً. وكان استخدام أميركا للقوة منذ نهاية الحرب الباردة قد عمل على إضعاف الأمة وتجفيف الموارد، وكلف فقدان أرواح العديد جداً من الرجال والنساء المقاتلين. ومن غير المعقول افتراض أن الأسلوب السلطوي للضباط الرفيعين سيعكس وجهة هذه الاتجاهات.
سوف يحتاج الجنرال جيمس ماتيس تنازلاً من مجلسي الشيوخ والنواب ليتم تثبيته وزيراً للدفاع. ومنذ تأسست وزارة الدفاع الأميركية في العام 1947، فإن جنرالاً واحداً -هو جورج سي مارشال- تلقى مثل هذا التنازل. ويجب عدم الخلط بين ماتيس وجورج سي مارشال.
ميلفين غودمان
صحيفة الغد