مهما كانت النتيجة في شرق مدينة حلب، فالثابت أنّ العالم وقف، ولا يزال، متفرجا على أكبر عملية قتل وتدمير طالت مدينة في هذا القرن. يجري تبييض الجريمة بعنوان الإرهاب. هكذا يتحول قتل الأطفال وتشريد أبناء المدينة وتدميرها الممنهج إلى أمرٍ عادي لا يهتز له العالم، فقط بذريعة محاربة الإرهاب.
الانتصار الذي بدأ النظام السوري يتحدث عنه ليس سوى انتصار للجريمة وللاستبداد، وهو أيضا انتصار للمقتلة التي نفذت ضد هذه المدينة بالتعاون بين روسيا وإيران ونظام بشار الأسد، وما بينهما من ميليشيات. والأهم هو التغطية الدولية التي جعلت من جريمة الحرب هذه مجرد قتال عسكري بين جيش وعصابات إرهابية، متعامية عن حجم الإجرام الذي ارتكب بحقّ الشعب السوري طيلة السنوات الماضية، وعن مطالبته بحقوقه الدنيا كشعب وكمواطنين في دولتهم.
التدمير ليس لسوريا فقط، ولا لمدنها ولا لأريافها ولا لنسيجها الاجتماعي فحسب، بل التدمير الأكثر أهمية وأكثر عمقا هو الذي يحاول النظام السوري وحلفاؤه تحقيقه، يطال حق الحياة بحرية. إذ لا يتيح هؤلاء ولا المجتمع الدولي من ورائهم أي مجال لإحداث تغيير سياسي يتيح المجال لإعادة الأمل في بناء سوريا. المطلوب هو تدمير إرادة السوريين وجعل البلد بما تبقى من أهله في حال من الطواعية لكلّ ما يمكن أن يكبّل به من اتفاقيات دولية وإقليمية.
هذا هو الانتصار، ذلك أنّ النظام السوري لو كان يعبّر ولو بحدود بسيطة عن نظام المصالح الوطني السوري، لكان أدرك منذ البداية أنّ الانتصار الحقيقي هو في المحافظة على مقومات الدولة البشرية والمادية، بتقديم بعض التنازلات الحقوقية والسياسية لشعبه، لكن هذا النظام الذي طالما صادر الحريات باسم القضايا الكبرى سواء فلسطين، أو شعار حماية الدولة وحدودها وسيادتها، أثبت أنـّه مستعد لتدمير كل البلد والتنازل عن السيادة، وتقديم كل شيء على مذبح البقاء في السلطة. هذا ما تظهره الوقائع حتى اليوم، القرار الرسمي السوري أصبح في يد روسيا وإيران، فيما الملايين من المهجّرين السوريين ومئات الآلاف من القتلى هم مجرد أرقام تجري عملية تبييض الجريمة التي ارتكبت بحقهم تحت أنظار العالم وبرعاية الأمم المتحدة.
الانتصار الذي حققه بشار الأسد هو انتصارٌ لروسيا وإيران، وسيتعيّن على الأسد أن يلتزم أكثر بمقتضيات السياسة التي سيفرضها المنتصران. وما سيزيد من مأزق الأسد وحلفاؤه هو العجز عن توفير الاستقرار لسلطته ونظامه، وما سيزيد من تفاقم الأمور هو أنّ الحرب أخذت أبعادا مذهبية يصعب تجاوزها لا سيما مع بقاء حكم الأقلية العلوية، وهي التي تستمد قوتها من قوة شيعية تمثلها إيران.
هذا الواقع بذاته كفيل بجعل الأزمة مستمرة، وكفيل بجعل حالة الاعتراض متنامية وستأخذ أشكالا مختلفة بعد سقوط حلب. بالتأكيد لن تكون الحرب النظامية، لكنّ أشكالا مختلفة من نمط حرب العصابات أو المزيد من الاغتيالات والتفجيرات ستكون وسيلة من وسائل مواجهة فصائل المعارضة لنظام الأسد.
وإذ تؤكد مصادر غربية أنّ ظاهرة تمدد نفوذ القوى الإسلامية المتشددة ستبرز أكثر فأكثر كلّما بدا أنّ المجتمع الدولي سيحامي عن فكرة بقاء الأسد في السلطة، وسيقدم مشروع المواجهة العسكرية ضد الإرهاب على التسوية السياسية والتأسيس لنظام ديمقراطي، وبالتالي فإنّ الشرخ سيتنامى بين النظام ومعارضيه، وستشكل السمة المذهبية اختصارا للمواجهة في الداخل السوري.
قبل نحو ثلاث سنوات كان الرئيس الأميركي باراك أوباما، وبعد سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، من أوائل الذين أعلنوا أنّ عملية الخلاص من داعش لها بعدان أمني وسياسي ولا يمكن الفصل بينهما، مشيرا إلى أنّ مواجهة هذا التنظيم تتطلب تسوية سياسية داخلية في العراق تكون السبيل لتوفير البديل عن داعش في البيئات التي نجح هذا التنظيم في استغلال حالة القهر داخلها.
لم يقل أوباما في حينها إنّ ذلك يتطلب جهدا دوليا وأميركيا يتجاوز التحليل إلى الممارسة. من هنا تبدو سوريا مثالا لما يمكن أن يصبح عليه الحال في المستقبل كلما تمسكت إيران وروسيا ببقاء النظام. فهذا بحد ذاته سيكون عنصر تفجير دائم في المشهد السوري، وعنصر استثمار دولي وإقليمي، بحيث سيدرك الجميع أنّ الحرب ستستمـر وأنّ الاستنـزاف سيستمر، في غياب أيّ تسـوية سياسية تنطـوي على تغيير سياسي ملموس ومقنع للسوريين. فالحرب على الإرهاب ليست شعارا في نموذج تطبيقاته في العراق وسوريا، ولكنه يشكل مدخلا لبناء استقرار سياسي في هاتين الدولتين، خصوصا وأنّ التطبيقات على الأرض لا تـزال تظهـر أنّ القهـر السياسي مستمر لفئات واسعة من المجتمع، ولم تزل وسائل الحرب المذهبية والطائفية، هي الأداة التي تتحلـق حولها فصائل الحرب، فيمـا يغيب عمليا أيّ مشروع سياسي وطني جامع وقادر على معالجة أسباب القهر تلك التي شكلت، ولا تزال، أرضا خصبة لنشوء جماعات الإرهاب والتطرف.
تسقط حلب الشرقية بالمعنى العسكري لكن عبر سحق كل ما يتصل بقيم الإنسان وحق الحياة وحق التعبير والاعتراض وحق التغيير الديمقراطي. يتمّ ذلك من دون أن يشكل ذلك تحديا للمجتمع الدولي، بل يكافأ نظام الأسد وحلفائه بالمزيد من تشجيعه على ممارسة أبشع الجرائم.
فما فعله هؤلاء طيلة أكثر من خمس سنوات يتناساه العالم اليوم، بل يشجع أكثر على المزيد من التورط في الإجرام والتهجير. أوَ ليس هذا ما رأيناه في سوريا، فكلما أوغل الأسد في القتل والتدمير كلما صار العالم مقرّا بأهمية بقائه ووجوده على رأس النظام.
هذا العالم لم يزل على عهده في بلادنا. هو عالم يحترم من يقتل أكثر من شعوب المنطقة. كانت إسرائيل في زمن مضى، أمّا اليوم فثمة من تفوق بدرجات عليها في القتل والتدمير ويستحق أن يبقى ما دام يحسن قتل الشعوب وقمعها.
على الأمين
صحيفة العرب اللندنية