29 عاماً مرّت على انتفاضة الحجارة الأولى، يوم قامت شاحنة صهيونية عن سابق إصرار وترصد، بدهس عمال فلسطينيين في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 1987، ما أدى إلى استشهاد أربعة فلسطينيين، وجرح عديدين. وقد اكتفى الكيان الصهيوني بإذاعة الخبر، كأنه حادث عادي يشبه العديد من الحوادث المماثلة، فالموتى فلسطينيون عرب، والمطلوب قتلهم بأية طريقة. في اليوم التالي، وأثناء تشييع جثامين الشهداء، اندلعت تظاهرة عفوية قامت بها جماهيرنا في القطاع، ثم بدأت بإلقاء الحجارة على موقع الجيش الصهيوني في جباليا، فقام جنود الاحتلال بإطلاق النار على الحشود، الأمر الذي دفع المتظاهرين إلى رميهم بوابل الحجارة وزجاجات المولوتوف، وهو ما شكل شرارة الانتفاضة.
الحادثة كانت مجرد القشة التي قصمت ظهر البعير، لأن الانتفاضة اندلعت بسبب تضافر العديد من الأسباب: إرهاصات سابقة من فظائع الاحتلال وجرائمه اليومية بحق شعبنا في كل الأراضي المحتلة عامي 1948 و 1967، وتوق شعبنا إلى الحرية، وتردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في المناطق المحتلة إلى حدّ كبير، إضافة إلى سياسة الإذلال اليومي ضد شعبنا تحت الاحتلال، وعمليات التفتيش اليومية التي يتعرض لها أهلنا في بيوتهم، والاعتقالات والاغتيالات اليومية، والاستيطان ومضي العدو قدماً في تهويد القدس، ومصادرة الأراضي الفلسطينية.
تدريجياً، انتقلت شرارة الانتفاضة إلى أنحاء قطاع غزة والضفة الغربية كافة، وتضامن معها شعبنا في كل أنحاء المنطقة المحتلة عام 1948.
مثّلت الانتفاضة فشلاً للأجهزة الأمنية والاستخباراتية الصهيونية، على الرغم من وجودها المباشر على أرضنا، رغم التحذيرات التي أبداها عدد من السياسيين الصهاينة، كوزير الخارجية السابق أبا إيبان، الذي كتب في نوفمبر/تشرين ثاني عام 1986، أي قبل سنة من الانتفاضة: «ليس لدى الفلسطينيين أية سلطة على الحكومة التي تتحكم في أوضاعهم المعيشية. إنهم يتعرضون لضغوط وعقوبات وظروف قاسية، غير طبيعية، ما كان لهم أن يتعرضوا لها لو كانوا يهوداً. إن هذه الحالة لن تنتج غير حالة من الاحتجاج تستمر فترة طويلة».
أسقطت الانتفاضة سياسات رابين (صاحب نظرية تكسير عظام الفلسطينيين) العنجهية الفاشية، فقد أعلن ذاك النازي حينها، خلال كلمة له في الكنيست «سنفرض القانون والنظام في الأراضي المحتلة، حتى ولو كان يجب المعاناة لفعل ذلك». وأضاف «سنكسر أياديهم، وأرجلهم لو توجب ذلك». وفشل رابين وجيشه النظامي في مواجهة الانتفاضة، واستنجد بحرس الحدود من أجل إخماد الثورة الشعبية.
ورغم كل وسائل القمع الصهيونية، تصاعدت الانتفاضة بفعل وعي جماهيرنا، بخاصة بعد إنشاء الفصائل الفلسطينية ل«القيادة الموحدّة للانتفاضة» التي أشرفت بشكل يومي على كل النشاطات النضالية: تظاهرات، إضرابات، عصيان مدني، مقاومة بالحجارة، مقاومة بالسلاح في بعض الأحيان، حرق إطارات في الشوارع، وغيرها من الوسائل. وشاركت كل قطاعات شعبنا وفئاته العمرية من الجنسين، في النشاطات النضالية للانتفاضة، التي فرضت نفسها كحالة نضالية ثورية فلسطينية على العالم العربي، وعلى المستويين الإقليمي والدولي، إلى الحد أن الكلمة دخلت في صفحات قواميس اللغة في كل اللغات العالمية. وساهمت الانتفاضة في المزيد من إيضاح عدالة القضية التحررية للشعب العربي الفلسطيني على الصعيد الدولي، من جهة، وفضحت حقيقة الفاشية الصهيونية واحتلالها لأرض فلسطين وللأراضي العربية من جهة أخرى. وكان مقدراً للانتفاضة لو استمرت، أن تنقل شعار تحقيق الدولة الفلسطينية من إمكانيته النظرية إلى الواقع العملي.
لكل ما سبق، بدأ التآمر عليها صهيونياً، أمريكياً وغربياً على طريق إجهاضها من الداخل. وبدأت الوعود واقتراح العديد من الصيغ لإجهاضها، فكان مؤتمر مدريد، وصولاً إلى اتفاقيات أوسلو الكارثية، وما تلاها من مباحثات وتداعيات، وهو ما أدى إلى إيقاف الانتفاضة.
ومنذ عام 1993 تاريخ عقد الاتفاقيات المشؤومة حتى اللحظة، لم يتحقق شيء من الوعود سوى: زيادة التنازلات الرسمية الفلسطينية، مضاعفة الاستيطان، المضي قدماً في تهويد القدس، المزيد من المذابح وقمع الفلسطينيين، التنكر الصهيوني المطلق لحقوق شعبنا، التأكيد صهيونياً على أن لا دولة فلسطينية ستقام، المزيد من الاشتراطات على الفلسطينيين بضرورة اعترافهم ب«يهودية «إسرائيل»»، الخ!.
ولعل من الدروس المتوجب تعلمها من الانتفاضة أن المشروع الصهيوني لم، ولن يتوقف عند حدّ. إن هذا الكيان لا يمكن أن يتعايش مع كل أشكال السلام وحلوله، وإن لغة التعامل الوحيدة معه هي من خلال القوة.
والدرس الحقيقي الذي أثبتته الانتفاضة الأولى، هو وحدة شعبنا العربي الفلسطيني في كل مواقعه، بما يعنيه ذلك من فشل الكيان الصهيوني في «أسرلة» أهلنا في المنطقة الفلسطينية المحتلة عام 1948
د.فايز رشيد
صحيفة الخليج