اهتمت إسرائيل بما يجري في الحرب الأهلية السورية منذ عام 2011 دون أن تُظهر اهتمامًا بمصير نظام الأسد، بقدر انشغالها بتحولات القوى في ميدان المعركة بين قوات الأسد وحزب الله، ولاحقًا إيران عبر الحرس الثوري من جانب، وبين الجماعات المسلحة المتعددة المشارب والمدعومة من قوى إقليمية ودولية من جانب آخر، والتي لم تُشكِّل في أي وقت ما يمكن تسميته بـ”بديل” لنظام الأسد.
وامتد ذلك الاهتمام الإسرائيلي إلى مدى تأثير التدخل الروسي إلى جانب الأسد وحلفائه، فضلا عن تدخل تركيا في الجبهة المناهضة، على مستقبل توازنات القوى في المنطقة في المدى البعيد.
في هذا السياق، حددت تل أبيب على المدى المنظور والتكتيكي أربعة خطوط حمراء دونها لن تتحرك للتدخل في الصراع السوري المتعدد الأطراف:
أولا: منع قوات الأسد من الاقتراب من خطوط وقف إطلاق النار في هضبة الجولان المحتلة.
ثانيًا: منع حزب الله وإيران من استغلال الحرب في سوريا لتهريب سلاح متطور، خاصة الصواريخ داخل الجنوب اللبناني لدعم الترسانة الحربية لحزب الله.
ثالثًا: منع تمركز الجماعات المسلحة التي تقاتل قوات الأسد وحلفاءه قرب هضبة الجولان.
رابعًا: عدم السماح للتدخل الروسي في الحرب السورية بإعاقة حركة الجيش الإسرائيلي في تحقيق الأهداف الثلاثة السابقة.
أما على المدى الاستراتيجي، فبدا أن إسرائيل تصوغ تصورات مستقبلية لمواجهة ما قد تُنتجه الحرب السورية من تحالفات إقليمية قد تؤثر على مصالحها، خصوصًا على صعيد التمدد الإيراني، وزيادة التأثير الروسي.
رهان المراقب:
على مدى السنوات الخمس الماضية، نجحت إسرائيل في أن تُجبر خصومها أو منافسيها على عدم تخطي الخطوط الأربعة سالفة الذكر في الصراع السوري، باتخاذها موقف المراقب الذي لا يتدخل في الأحداث إلا بقدر من الإجراءات تستدعيها الخطوط الحمراء الموضوعة من جهتها.
فقد شن الطيران الإسرائيلي غارات عديدة على مواقع للجيش السوري بالقرب من هضبة الجولان في الفترة ما بين عامي 2012 و2016 ردًّا على سقوط بعض القذائف في المنطقة التي تحتلها إسرائيل من الهضبة. وبرغم أن هذه القذائف كانت تستهدف مواقع الجماعات التي تقاتل الجيش السوري والقريبة من الجولان، إلا أن إسرائيل أرادت أن تؤكد أنها لن تقبل حتى بعمليات تتم تحت هذه الذريعة، وتحت التفسير القائل بأنها ضربات غير مقصودة، ولا تستهدف الوجود الإسرائيلي هناك.
كما استهدفت الغارات الإسرائيلية أيضًا في الفترة المشار اليها مواقع للجيش السوري بذريعة منع وصول أسلحة إيرانية إلى حزب الله، بل إن تل أبيب أعلنت في ٢٨ نوفمبر ٢٠١٦ أن طائراتها الحربية أغارت على موقع تابع لتنظيم الدولة الإسلامية جنوب الجولان السوري المحتل، وقال الجيش الإسرائيلي إن الغارة -التي أدت إلى تدمير الموقع- جاءت ردًّا على استهداف التنظيم قوة من الجيش قرب خط وقف إطلاق النار.
الأهم من ذلك، أن إسرائيل انتزعت اعترافًا من روسيا بمصالحها في سوريا في تصريح أدلى به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر ٢٠١٥ بقوله، إن “روسيا تُقرُّ بحق إسرائيل في الدفاع عن مصالحها في سوريا”. كما برهن رد الفعل الروسي -بعد التدخل في الصراع بسوريا عسكريًّا- على هجمات إسرائيلية ضد الجيش السوري بأن التقدير الإسرائيلي بأن روسيا لن تقف ضد حرية إسرائيل في العمل على الجبهة السورية كان صحيحًا بالمطلق.
ومكنت هذه الإجراءات إسرائيل من تحقيق عدة أهداف أساسية؛ أولها الردع لكل الجبهات المحتمل فتحها ضدها، وبالتالي، قللت تل أبيب من حاجتها للتدخل العسكري الواسع في الصراع مع سوريا. وثانيها دفع حزب الله للتركيز على الجبهة السورية لمعاونة الأسد بدلا من توجيه اهتمام كبير بجبهة الصراع مع إسرائيل. أما ثالث الأهداف فيتعلق بضمان إسرائيل انشغال إيران بالدفاع عن مصالحها في المنطقة العربية بدلا من السعي إلى إنتاج السلاح النووي.
ورابعًا وأخيرًا، فقد كفل موقف المراقب لإسرائيل كسب حلفاء جدد من القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري بحسبانها القوة الإقليمية الوحيدة التي لم تُستنزف في الصراع، وهو ما يمكنها في المدى البعيد من حصد مكاسب استراتيجية كبيرة عند إعادة ترتيب القوى الإقليمية المؤثرة في مصير منطقة الشرق الأوسط.
ما بعد حلب:
لا يوجد اتفاق واضح بين الخبراء والمحللين الإسرائيليين حول تداعيات تمكن نظام الأسد -بدعم روسي- من استعادة مدينة حلب. إذ يبرز هنا اتجاهان، الأول يرى أن هذا الانتصار في حلب لن يُنهي الحرب السورية، الأمر الذي يقضي باستمرار سياسة تل أبيب في المراقبة للصراع السوري. أما الاتجاه الآخر فيرى أن معركة حلب غيرت من موازين القوى في الصراع السوري، وأن على تل أبيب التخلي عن دور المراقب لصالح دور أكثر فاعلية دون تحديد مداه ومحتواه.
فعلى سبيل المثال، عبّر المحلل الإسرائيلي “تسيفي برئيل” عن الاتجاه الأول في مقال نشره في صحيفة “هآرتس” في ١٨ ديسمبر 2016 لخص فيه الوضع في سوريا على الوجه التالي:
“السؤال المطروح الآن هو: ما الذي سيفعله الأسد مع هذا الانتصار؟ فحلب ليست نهاية حاسمة، والخارطة الملتوية للسيطرة تقول إن مناطق كثيرة في الدولة ما زالت خارج سيطرة النظام. وإعادة سيطرة داعش على تدمر هي ضربة شديدة للنظام ولروسيا. المتمردون المسلحون في حلب من المفروض أن ينتقلوا إلى إدلب، وهي منطقة هامة، حيث إن الجيش السوري لا يُسيطر عليها، ويتوقع حدوث معركة شديدة فيها. وفي الشمال وفي جزء من الحدود بين تركيا وسوريا تسيطر الميليشيات الكردية التي تقاتل أيضًا ضد القوات التركية التي يساعدها جيش سوريا الحر وضد داعش. منطقة الرقة، عاصمة داعش، وأجزاء من دير الزور توجد تحت سيطرة مختلطة لداعش والأكراد والجيش السوري. والجنوب ينقسم بين قوات النظام وبين الميليشيات التي تنتمي لجيش سوريا الحر وداعش”.
إذن، فبرئيل ربما يرى ومعه آخرون غيره أن الوضع في سوريا ربما لا يستدعي حدوث أي تغير في السياسة الإسرائيلية القديمة طالما أن الصراع بصورته القديمة سيظل لفترة من الزمن.
غير أن من يعبّرون عن الاتجاه الآخر الذي يرى أن ميزان الحرب في سوريا قد تغير للأبد بعد سقوط حلب، يشددون على أهمية أن تبدأ إسرائيل في رسم سياسات جديدة حيال سوريا تختلف عن تلك التي اتُّبعت قبل سقوط مدينة حلب.
في هذا السياق، يقول “إيال زيسر” في مقال نشره في صحيفة “إسرائيل اليَوْمَ” ١٨ ديسمبر 2016: “انتصار الأسد في حلب سيحرر القوى والطاقات لدى إيران وحزب الله من أجل التوجه إلى الهدف التالي. فهما لا يبحثان عن مواجهة مع إسرائيل، لكن الجرأة والتحريض سيتغلبان بلا شك في اليوم التالي. وأخيرًا، الإرهاب والراديكالية الإسلامية لن يختفيا، بل سيتعززان، حيث ستتحول الأحداث في سوريا إلى أدوات لتجنيد الدعم ومحرك لعمليات أخرى. إسرائيل بعيدة عن حلب مئات الكيلومترات، لكن يُحتمل أن تدفع هي أيضًا ثمن التراجيديا التي حدثت هناك. كل ذلك يجب أخذه في الحسبان والاستعداد لمواجهته”.
أيضًا، فإن أصحاب اتجاه تغيير توجهات السياسة الإسرائيلية حيال سوريا يريدون التحرك في سياسة بديلة تواجه المخاطر المحتملة حال استعادة الأسد لكامل سيطرته، وبالتالي تقوية موقف خصوم إسرائيل المتحالفين معه (إيران وحزب الله)، دون أن يوضحوا حدود هذه المخاطر، وكيفية مواجهتها بعد التخلي عن دور المراقب.
وَمِمَّا لا شك فيه أن هناك نوعًا من عدم اليقين بين المحللين الإسرائيليين تجاه مستقبل سوريا، وبالتالي فإن وضع المراقب الذي اتخذته إسرائيل قد يَبقى على حاله حتى النصف الأول من العام المقبل على الأقل، عندها ستتضح الخطوط المرسومة بين روسيا والولايات المتحدة فيما يتعلق بإنهاء الصراع السوري، خاصةً مع ميل الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى تبني سياسات توافقية مع روسيا حول هذا الملف.
أيضًا، تنتظر إسرائيل الخطوات التي ستتخذها إيران في مناطق أخرى مشتعلة مثل اليمن، وتأثير ذلك على حسم توجهات إيران، هل تتجه نحو مزيدٍ من الضغط على الدول العربية بما يُعطي إسرائيل مساحة أكبر للاقتراب من هذه الدول المهددة من جانب طهران ولو عن طريق استغلال تركيا في تحقيق هذا الاختراق، باعتبار أنقره كانت تقف في الجبهة المواجهة للأسد وحلفائه؟ أم أن إيران ستكتفي بتدعيم موقعها في سوريا، وتحاول استعادة ثقة الغرب بتخليها عن السياسات المثيرة لعدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي لن تتوجه نحو مزيدٍ من وضع الضغوط على الدول العربية الخائفة منها؟.