عندما اجتاح السنة الجهاديون التابعون لتنظيم “داعش” شمالي العراق في حزيران (يونيو) 2014، دعا أعلى رجل دين شيعي في العراق، آية الله علي السستاني، إلى تحشيد وطني للدفاع عن بغداد والأضرحة الشيعية. وتطوع عشرات الآلاف من الأغلبية الشيعية في العراق للقتال.
لكن يزن الجبوري، رجل الميليشيا السني الشاب، أراد قتال “داعش” أيضاً. ولم تكن لديه أي فكرة عن مدى صعوبة كسر “التابوهات” الطائفية في العراق.
عندما انضم السيد الجبوري، أول قائد سني يلتحق بقوات الحشد الشعبي على رأس فرقة صغيرة قوامها 90 سنياً معادياً لـ”داعش”، بدا ذلك مهمة شاقة للتغلب على عدم الثقة والخوف. وكادت المهمة تفشل.
اليوم، دخلت المجموعات المتنوعة من القوات العسكرية الشيعية والسنية والكردية في العراق في معركة ضد “داعش” في الموصل، ساعية إلى طرد الجهاديين من آخر معقل لهم في العراق. ولكن، وعلى الرغم من هذا العرض للوحدة ضد العدو المشترك، يظل الساسة العراقيون بعيدين عن التغلب على هوس الخوف الطائفي الذي ما يزال يبتلي العراق لعقود، مما قاد المحللين إلى التحذير من مزيد من سفك الدماء، حتى بعد إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
بمبادرتهم لقتال “داعش” مع قوات الحشد الشعبي، أُعطي الجبوري ورجاله في البداية مجرد حفنة صغيرة من البنادق الهجومية، ومن دون طلقات نارية. وهرب 20 من مقاتليه على الفور.
ويتذكر الجبوري ذو اللحية الكثيفة واللباس المموه، خلال مقابلة تلفزيونية في بغداد: “أعطونا تسع بنادق (إيه كيه-47) من دون مخازن طلقات. وفي ذلك الوقت، لم يشاركونا النوم في المكان نفسه. ولم يثقوا بنا”.
ويقول الجبوري وهو يتذكر مبتسماً إن القادة الشيعة قالوا لمقاتليهم إن السنة هم مثل “داعش”، وقالوا لهم محذرين: “هؤلاء الشباب سوف يقطعون رؤوسكم بينما تكونون نائمين”.
ويقول إن الأمر الذي صنع الفارق كان “عندما تنزف وأنت معهم في المعارك، وعندما تقاتل معهم في نفس خطوط المواجهة، وعندما يموت أفراد من جماعتك معهم”.
ويضيف الجبوري: “لقد فهمنا الأمر… إنك لا تستطيع أن تطلب الثقة أبداً. إنك تكسب الثقة. ونحن كسبنا الثقة، بدمنا، بإرادة قتال ’داعش‘ بصدق. بالإيمان بحكم القانون”.
اليوم، يقود الجبوري نحو 5000 رجل ميليشيا سني، والذين لعبوا أدواراً رئيسية في استعادة تكريت وغيرها من المناطق في محافظة نينوى. وقد قاتلوا “داعش” بينما كانوا يمطئنون المناطق السنية التي تم تحريرها من قبضة “داعش” إلى أنه لن يلحق بهم الأذى من قوات الحشد الشعبي التي لها سجل في انتهاك حقوق الإنسان وفي ارتكاب أعمال عدائية ضد السنة في أماكن أخرى من العراق.
بينما يشكل بصيص الأمل لدى الجبوري بوحدة غير طائفية مثالاً لما هو محتمل في العراق، فإنه يظل يشكل استثناء في بلد شهد، في جيل واحد، سلسلة متصلة من أحداث القتل الطائفي بمقياس هائل، ونزاعات على السلطة بين الشيعة والسنة والأكراد.
وعلى الرغم من مثال التعاون العسكري ضد عدو مشترك والخدمة الخطابية التي يقدمها الساسة في حديثهم عن الوحدة، ما تزال تلك اللعنة من الطائفية تعصف بالقادة العراقيين، الشيعة في الوقت الراهن، تماماً كما كان حالها منذ الثمانينيات عندما استهدف الدكتاتور السني صدام حسين الثوار الأكراد ، ثم الشيعة أيضاً.
كما صبغ التطهير العرقي والنزاع الطائفي الأعوام التي أعقبت الغزو الأميركي في العام 2003، الذي أفضى إلى الإطاحة بحكم الأقلية السنية لصالح الأغلبية الشيعية في العراق.
دروس قليلة تم تعلمها
على الرغم من تلك العقود من التجارب المؤلمة، والأمثلة كمثال الجبوري التي تظهر مزايا العمل سوية، يقول المحللون إن عدداً قليلاً من الدروس قد استقيت ويجري تطبيقها اليوم.
يقول هاشم الهاشمي، المحلل الأمني في بغداد والذي يسدي المشورة للحكومة العراقية: “إنهم لا يستمعون إلى بعضهم بعضا”. ويضيف السيد الهاشمي: “الشيعة يشعرون بأن لهم ضحاياهم، وهم فخورون بهم. والسنة يشعرون بأنهم مهزومون ويعانون من الظلم. وسوف يتصاعد كلا الشعورين: خيبة الأمل السنية ستزيد، والشعور الشيعي بأنهم ضحية سيتصاعد. وكلا الطرفين مستعدان للعوة مرة أخرى إلى الصراع”.
ويتكرر صدى هذه النظرة المتشائمة في العراق حتى في أوساط أولئك الذين يعملون على جسر الانقسامات والمتفائلين في المستقبل. وكان الجيش العراقي الذي أعاد بناء نفسه منذ انهياره في العام 2014 وقوات الحشد الشعبي التي تتلقى فصائل منها دعماً وتدريباً مباشراً من إيران، قد استعادوا سوية مدينة بعد الأخرى من “داعش”.
وكان رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي تحدث عن كل هجوم مضاد بعبارات الوحدة القومية وتعهد بكبح إساءات قوات الحشد الشعبي قد قال في الأسبوع الماضي أنه تبقى ملفاً من النظام القضائي العراقي يفصل فترات السجن وأحكام الإعدام التي أعدت لبعض مقاتلي قوات الحشد الشعبي.
لكن المشاكل ليست مقصورة على الشيعة في مقابل السنة. وكانت منظمة “هيومان رايتش ووتش” قد نشرت الشهر الماضي صورا التقطتها الأقمار الاصطناعية، والتي أظهرت “تدميراً كبيراً وممنهجاً” لمنازل عربية على أيدي قوات كردية في 62 قرية وبلدة في مناطق متنازع عليها. ومن جهتهم، ينفي المسؤولون الأكراد أن تكون عمليات الهدم تمت من باب التطهير العرقي.
وحتى طبيعة الهزيمة التي مني بها “داعش”، التي كانت سريعة في بعض المدن لكنها تدخل شهرها الثالث في الموصل مع ارتفاع في الخسائر، يمكن أن تزيد أكثر من اضطراب التوازن الطائفي.
العنف خلف حصيلته
يقول عمر الشهار، الصحفي السني في بغداد والمتخصص في محافظة الأنبار السنية في العراق، إن المشكلة متأصلة في الساسة السنة الرئيسيين. ويستشهد، على سبيل المثال، بمحافظ الموصل السابق أثيل النجيفي، الذي “انصب اهتمامه على وجود خوف طائفي من الشيعة، لأن مستقبله السياسي يعتمد على فكرة ’حماية السنة‘”.
وبالمثل، يقول الشهار: “لا أحد يستطيع انتقاد الشيعة، لأن الشيعة يعتقدون بأنهم بذلوا الكثير من الدماء للمناطق السنية -وما من شك في هذا الأمر”، لأن الجيش وقوات الحشد الشعبي يتكونان في الغالب شيعة. ويقول، “أي انتقاد يعني أنك تهين تضحياتهم”.
ألقت سنوات العنف بثقلها على القيادة السنية، بالإضافة ما ألقته من ثقل على ملايين السنة الذين تشردوا بسبب الصراع و/أو العيش تحت نير “داعش”، حيث دمرت مدن ومنازل الكثيرين منهم.
ويقول الشهار: “لقد تغيرت أولوية السنة كثيراً” من الهواجش في الماضي إزاء علاقتهم مع الحكام الشيعة في بغداد إلى مجرد الاستدامة في الوقت الراهن. لقد تدمر المجتمع السني تماماً”.
في إدراك منه للمخاطر الطائفية بعد هزيمة “داعش”، بدأ رجل الدين الشيعي السياسي عمار الحكيم العمل في أيلول (سبتمبر) الماضي على اقتراح للتوصل إلى “تسوية تاريخية” تتضمن عفواً عاماً، والمساعدة في حل الخلافات الطائفية بدعم من الأمم المتحدة.
لكن اقتراح السيد الحكيم تعرض لنار منتقدين يصفون الاقتراح بأنه “حل إعلامي” يفتقر إلى التفاصيل الضرورية التي تجعله يعمل. يقول زيد الطالقاني، رئيس مركز الرافدين للحوار: “كل الأطراف السياسية في البلد لا تتوافر على حلول حقيقية، وإنما على حلول إعلامية وحسب. وفي هذه الحالة، لن يتعلم أحد الدروس من خبرته”.
إيجاد التوازن الصحيح
لكن السعي إلى تحقيق هذه التسوية قد يكون مكاناً جيداً للبدء منه من أجل تطبيق الدروس المستقاة من عقود من المرارة الطائفية في العراق. وكان آية الله الكبرى السيستاني قد دعا مراراً إلى الوحدة الوطنية الوطنية، وأعلن أن العراقيين السنة هم “جزء منا”.
ويقول علي حمودي، المسؤول الرفيع في المجلس الإسلامي الأعلى الذي يتزعمه الحكيم: “علينا أن نعيش مع السنة. لا نستطيع أن نلقي بهم في البحر”. لكنه يشير إلى أن بعض المجموعات الشيعية “تمارس ممارسات متطرفة ضد السنة لأسباب سياسية”.
سوف يكون العثور على التوازن الصحيح للتفاهم والقبول أمراً حساساً إذا قدر للعراق أن ينهي دورة العنف التي يعيشها. ويقول السيد حمودي إن اقتراح “التسوية” مصمم لجسر تلك الفجوات.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد