يصادف هذا الشهر مرور ستة أعوام على بداية الربيع العربي، سلسلة الأحداث التي كان من المفروض أن تشكل نقطة تحول في الشرق الأوسط الحديث. كانت حادثة إشعال البائع التونسي المتجول النار في نفسه وموته في الرابع من يناير هي التي أذنت ببدء عام ثوري. ألهبت الاحتجاجات التي انطلقت من بعد الجماهير العربية التي استعادت فيما يبدو ثقة شعبية بالنفس كانت قد اضمحلت من قبل تحت وطأة ستة عقود من الاستبداد. حاز الشارع العربي على التكريم لشجاعته وعزمه، وقد ألهم حركات انطلقت في مختلف أرجاء العالم. لم يصدح المحتجون فقط بشكاواهم، كما قيل، بل غيروا العالم أيضا. سقط أربعة من حكام العرب. إلا أنه بعد مرور ستة أعوام قصيرة باتت تلك الأحلام الآن في مهب الريح.
في مصر، أكبر البلدان العربية من حيث تعداد السكان، تمكنت الثورة المضادة من إعادة الدكتاتورية العسكرية إلى الحكم. وانتهت معظم المناطق في كل من ليبيا واليمن إلى ركام في حروب، القوى الخارجية هي الفاعلة فيها بشكل رئيسي، وهي التي على استعداد للاستمرار في القتال حتى موت آخر إنسان محلي. وسوريا انتهت إلى دمار شامل وإلى أنهار من دم.
النجاح الديمقراطي الوحيد كان من نصيب تونس، التي شهدت انتقالا سلميا من الحكم السلطوي إلى الحكومة المنتخبة. كان الحزب الإسلامي الرئيسي فيها قد فاز بالسلطة. وفي العام الماضي، أعلن عن وقف كافة نشاطاته الثقافية والدينية، والتركيز على السياسة دون غيرها، متحولا بذلك إلى حزب ديمقراطي مسلم، على نسق نظرائه المسيحيين الغربيين. إلا أن لكل بطانة فضية سحابة؛ يشكل التونسيون العدد الأكبر من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة.
الأسباب التي فجرت الثورات لم تتبدد ولم تختف، بل لعل الظروف اليوم من عدة جوانب أشد وأنكى، والأوضاع أكثر قابلية للانفجار مقارنة بعام 2011. تعيش الدول العربية في أزمة في كل مكان تقريبا؛ تراجع أسعار النفط أدى إلى نخر الاقتصاد السعودي، والقيادة المعطوبة في مصر تخلق الأزمة تلو الأخرى، والرجال والنساء الذين تملكهم اليأس ويمموا تجاه أوروبا إنما خرجوا طلبا لحياة أفضل من تلك التي تتوفر لهم في أوطانهم.
وبحسب تقرير التنمية العربي الصادر عن الأمم المتحدة -وهو الأول الذي يصدر منذ تفجر الربيع العربي- فإن الشرق الأوسط يسكنه خمسة بالمئة فقط من سكان العالم، لكنه يولّد 45 بالمئة من الإرهاب في العالم، وتبلغ نسبة الوفيات فيه بسبب الحروب 68 بالمئة، ونسبة المهاجرين 58%، وهذا يأتي في وقت، كما تحذر الأمم المتحدة، يتجاوز فيه تعداد الشباب من العرب 100 مليون نسمة، ويستمر عددهم في التزايد بشكل سريع، ولكن ليس بالسرعة ذاتها لمعدلات البطالة والفقر والتهميش.
إن ظهور أكبر جيل من الشباب يعدّ الأفضل تعليما والأعلى تمدنا في تاريخ المنطقة -الذي يفوق في تدينه ما عليه أقرانه في مناطق العالم الأخرى بمراحل- يعطي انطباعا بأنه قوة تدفع باتجاه الزعزعة والاضطراب. كان رد الفعل في داخل المنطقة هو اللجوء إلى القمع؛ سحق المعارضة، ولكن دون معالجة الأسباب التي أوجدتها. ولذلك ليس عجبا أن تحذر الأمم المتحدة من “تراكم المطالب وعودتها إلى الظهور بأشكال أكثر عنفا”.
الأسباب التي ستولد دورة جديدة من الاحتجاجات واضحة، ومن ذلك أن العالم العربي تزدهر فيه السيوف لا المحاريث، وهو الذي أنفق خلال ربع القرن الأخير ما يقرب من 75 مليار دولار سنويا على التسلح. تسيطر النخب العائلية على السلطة، والأعمال التجارية لا تكاد تتم دون الواسطة والمحسوبية. أدى الفساد إلى إهدار كم هائل من الموارد؛ تقول الأمم المتحدة إن ما يقرب من 11 تريليون دولار نهبت خلال نصف قرن. كان يمكن لهذه المبالغ أن تستثمر في إيجاد فرص العمل وتحسين الخدمات الأساسية. لا بد من التخلص من الفكر الذي يوصد الأبواب في وجه من يتحدى الوضع القائم.
المخاطر في السياسة واضحة. إذا لم توجد آليات للمشاركة والمحاسبة بما يسمح بالاحتجاجات السلمية، فإن الساخطين سيبحثون لا محالة عن وسائل مباشرة وعنيفة. في العالم العربي يتطلب ذلك نظرة ثاقبة داخل الإسلام السياسي. يتعامل العالم السني مع حالة نفسية من القلق؛ فهذا الشعب الذي يشترك أبناؤه في تراث ثري من الثقافة والديانة واللغة، ويشكل أكبر مجموع إثني في العالم العربي، رأى مدنه العظيمة تسقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي خصومه: الموصل، حلب، القدس، بغداد ودمشق.
من زاوية الجغرافيا السياسية، كشفت الأحداث الأخيرة كيف أن العرب باتوا مرة أخرى حجارة على رقعة الشطرنج. ولا أدل على ذلك من أن قرار الأمم المتحدة التاريخي الذي طالب بوقف الاستيطان الإسرائيلي في المناطق المحتلة لم تتقدم به دولة عربية. وفي سوريا، خطة السلام لم تأت من قبل قوة عربية سنية، بل من قبل روسيا وإيران وتركيا.
سوف يكون من نتائج وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض إهمال حالة اليأس والإحباط في الشارع العربي. ولعل إقدام تيريزا ماي بشكل مفتقر إلى الحكمة والكياسة على وخز وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لإلقائه خطابا انتقد فيه إسرائيل يدفع بالأمور في الاتجاه ذاته. السيدة ماي، التي رفضت السير على خطى إدارة أوباما بأن تحظر تصدير السلاح إلى المملكة العربية السعودية بعد قصفها للمدنيين (في اليمن )، أكثر اهتماما ببيع المنتجات العسكرية من تفجر ينابيع الديمقراطية في العالم العربي.
ما من شك في أن سياستها خاطئة؛ فالذين يحال بينهم وبين تغيير مجتمعاتهم بالوسائل الديمقراطية سيحولون غضبهم إلى الداخل، وقد يحولونه إلى الخارج أيضا.
المصدر:الغارديان
ترجمة وتحرير: عربي21