بشار الأسد جاء بقاسم سليماني. الأسد وسليماني جاءا بـ «داعش». «داعش» و»النُصرة» جاءا بـ «التحالف الدولي» أي بالأميركيين. الأسد وسليماني و»داعش» و»النُصرة» جاؤوا بفلاديمير بوتين. بوتين جاء برجب طيّب أردوغان أو بالأحرى أعاده الى اللعبة بعدما كان لحاقه بالأميركيين أخرجه منها. الأميركيون والإسرائيليون لا ينافسون الروس ولا الإيرانيين، فجميعهم يريدون إبقاء الأسد بحجة أنه ونظامه «أقلّ سوءاً» من «داعش»، أي أنهم يسعون الى إنقاذ من صنع «داعش» وتسبّب بوجود «النصرة»، ويمهّدون لمساعدته على الإفلات من أي محاسبة ومعاقبة عبر ما يسمّى الحل السياسي، وإلا فما معنى القول أنه باقٍ حتى نهاية ولايته – كـ «رئيس منتخب»! – فكيف تتصوّر هذه القوى «حلاً» بوجود شخص محمّلٍ بكل الارتكابات المعروفة، وكيف يروَّج حالياً أن التنازل الذي يقدمه الأسد أنه لن يترشح للرئاسة في 2021 إفساحاً في المجال أمام «علويّ آخر أقل إثارة للانقسام»، كأن ستة أعوام من القتل والتدمير كانت مجرّد بحث عن «علويّ آخر» يختاره الروس ويوافق عليه الإيرانيون، وما على سورية وشعبها سوى أن يرضخا للأمر الواقع.
مثل هذا السيناريو «السياسي» كان مطلوباً من/ مطروحاً على روسيا منذ أواخر 2011 – أوائل 2012، لكنها لم تكن معترفة آنذاك بوجود أزمة ولا بوجوب التغيير، فالنظام وجيشه حليفان لها، ثم أنها عارضت إسقاط الأنظمة الذي دعمته الولايات المتحدة في ليبيا، وقبل ذلك في العراق. أصبح مؤكّداً الآن أن النهجَين الروسي والأميركي أفضيا الى نتائج متماثلة، إذ تركا الإرهاب يستشري، والانقسام الاجتماعي يدفع باتجاه التقسيم الجغرافي، وسهّلا لإيران المساهمة في صنع الفوضى ثم استغلالها لملء الفراغ بمشروع هيمنة طائفية وإرهاب ميليشيوي منظّم ونفوذ إقليمي لن تجد روسيا وأميركا مناصاً من تمكينه والاعتراف به لقاء استخدامه. كان الازدراء الروسي الدائم بالأسد دفع بالأخير الى الارتماء أكثر فأكثر في أحضان الإيرانيين، معتبراً أن صفقة روسية – أميركية على رأسه تبقى أكثر احتمالاً من صفقة إيرانية – أميركية. لكن التسوية الأميركية – الروسية لأزمة السلاح الكيماوي بمساهمة إسرائيلية (2013)، ثم انتشار تنظيم «داعش» بين العراق وسورية (2014)، فضلاً عن التقارب الأميركي – الإيراني قبل الاتفاق النووي وبعده (2015)، طمأنت طهران الى دورَيها السوري والعراقي والأسد الى بقائه في السلطة كنقيض/ بديل من «داعش». ولمزيد من التحوّط، عملت إيران على إقناع موسكو بأن الوقت حان للتدخّل المباشر، فالحرب على «داعش» الى تصاعد بقيادة أميركية وقد تتطوّر سورياً لتمسّ بمصالحها.
كان التدخّل الروسي في مثابة الجائزة الكبرى التي أحرزها الأسد والإيرانيون لأنفسهم، إذ غيّر موازين القوى في شكل فوري، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى وجدوا إسرائيل تمدّ خطوطها مع موسكو وتقاسمهم المكاسب على حسابهم. بل إن روسيا بذلت كل جهد للتوصّل الى صفقة مع أميركا في شأن سورية، إلا أن مساوماتهما الخاصة في أوكرانيا لم تفلح، ومع ذلك حافظت موسكو على تواصل وحدٍّ أدنى من التنسيق مع واشنطن حتى عشية حسم معركة حلب وما انطوت عليه من جرائم وقذارات. وإذ بدت هذه المعركة أو صُوّرت بأنها فاصلة في الصراع، وأن ما بعدها لن يكون كما قبلها، فإن تعاون موسكو وأنقرة على تنظيم نهايتها قطع الطريق على المجزرة الكبرى التي كان الثنائي الإيراني – الأسدي يرغب فيها، ثم إن مبادرة موسكو الى بلورة تفاهم ثلاثي (روسي – تركي – إيراني) لم تأتِ منسجمة مع سيناريوات طهران ودمشق لما بعد حلب، لا عسكرياً ولا سياسياً. فالأسد والإيرانيون أرادوا، ولا يزالون، متابعة الزحف على ادلب وحمص وحماة ووادي بردى والغوطة ودرعا، لاستكمال «نصرهم» العسكري، وتوقّعوا، ولا يزالون، تأجيل البحث في أي تفاوض الى ما بعد «السيطرة الكاملة» التي ستغيّر جذرياً مفهوم الحل السياسي ليكون عندئذ مستنداً فقط الى معطيات المعادلة الميدانية، ولا يكون أمام المعارضة المهزومة سوى خيار القبول بشروط «المنتصر».
خاض بوتين معركة حلب بتفاهم غير معلن مع دونالد ترامب وبتفهّم غير معلن من جانب إدارة باراك أوباما، لكنه أدرك أن ظروف تدمير غروزني الشيشان والصمت الدولي الذي واكبه كانت مختلفة عن التدمير العلني الذي ارتكبه في حلب تحت أنظار العالم وغضبه وإداناته، حتى أن عار حلب طبع عام 2016 أكثر مما ميّزه صعود الزعامة البوتينية. وأنهى الرئيس الروسي معركة حلب بتحاور عسكرييه واستخبارييه مع الفصائل المقاتلة التي كان يشارك الأسد والإيرانيين في اعتبارها «إرهابية»، بل إن الوقائع بيّنت له أن «محاربة الإرهاب» التي استخدمها لتبرير الفظائع كانت غطاءً واهياً. في تلك اللحظة، قرر بوتين أن مصلحته تقضي بتعزيز التقارب مع تركيا، لأن تحكّمه بالجو فحسب جعل إنجازه في حلب تحت رحمة العبث الأسدي والإيراني. لذلك بدا تصويته لإرسال مراقبين دوليين ثم إعلانه الوقف الشامل لإطلاق النار أشبه بمحاولة من الدب الروسي للخروج من غابة الميليشيات وعقليتها للعودة الى جلباب الدولة المسؤولة وجدّيتها. لم يشارك الأسد ولا الإيرانيون في التفاوض الروسي مع الفصائل ولا في التوقيع على اتفاق وقف النار، ووقع الروس كضامنين للنظام وحلفائه والأتراك كضامنين للمعارضة، أي أنه اتفاق ثنائي يضع دمشق وطهران أمام الأمر الواقع، عسكرياً وسياسياً، لكنهما تمرّدتا عليه.
إذا بقيت روسيا متفرّجة ومنتظرة ولم تبرهن سريعاً أنها قادرة فعلاً على ضمان انضباط النظام والإيرانيين، فإن الهجوم على وادي بردى سيُجهز على الهدنة، وبالتالي على محادثات آستانا. لماذا؟ لأن اتفاق موسكو مع أنقرة سيبدو امتداداً للاتفاقات الروسية – الأميركية السابقة، حين كان الدور الأميركي يقتصر على كبح المعارضة وتخديرها فيما يُبقي الروس النظام والإيرانيين متفلّتين وجاهزين لإسقاط وقف للنار علناً، وبالتالي فإن هذا الدور قد يكون في صدد الانتقال الى الأتراك لقاء تعويضهم بالمساهمة في الحرب على «داعش» للحدّ من توسّع الأكراد. أكثر من ذلك، وبعد التفاوض الروسي مع الفصائل، سيبدو الاتفاق كخدعة حربية روسية أخرى لتمكين النظام من استعادة السيطرة على مزيد من المناطق، فضلاً عن تغطية إيران في سعيها الى تطبيق أجندتها الطائفية.
ليس واضحاً ما اذا كانت روسيا سارعت الى تشكيل التفاهم الثلاثي بهدف ضبط تركيا أو إيران أو الاثنتين في آن، ولا واضحاً أيضاً لماذا تسرّعت بإعلان الاتفاق وتعمّدت إظهار أنها تفاوضت ووقّعت بالنيابة عن النظام والإيرانيين وبصفتها ضامنة لسلوكهم. فحتى بيان قيادة جيش النظام عن التزام وقف النار قد يكون صدر بإرادة روسية ورغماً عن رأس النظام، بدليل أن لا الأسد ولا أي مسؤول إيراني رحّب بالاتفاق كما فعل بوتين نفسه وأردوغان، فيما تُرك للوزير وليد المعلم أن يقدّم اجتهاداً لفظياً يتعلّق بشروط المفاوضات السياسية أكثر مما يُعنى بالهدنة التي وضعها في إطار «الاستثمار السياسي للنصر في حلب». وعلى رغم أن موسكو تعمل في ذلك «الاستثمار السياسي» أيضاً، إلا أنها وقّعت اتفاقاً مع تركيا التي دأب الأسد على اتهامها بدعم الإرهاب، ومع فصائل لا تزال دمشق وطهران تعتبرانها «إرهابية»، والأرجح أن موسكو لم تعد معتمدة هذا التصنيف، ما يعني أن «الاستثمار» يواجه خسارة أولية. لذلك، شدّد وزير الخارجية الإيراني على ربط وقف النار بـ «اقتلاع جذور الإرهاب»، فيما حرص مستشار المرشد علي أكبر ولايتي على تحديد شروط المشاركة في مفاوضات آستانا بحصرها بالمعارضة «المستعدة لترك السلاح والإرهاب « والتي «تؤمن بشرعية الحكومة السورية» الحالية.
الأكيد، أن الحديث عن المفاوضات السياسية، ومع وفد معارض يضم ممثلي الفصائل، هو أكثر ما يكرهه الأسد والإيرانيون، فهذه لحظة فضّلوا تأجيلها أو التفاهم المسبق عليها مع موسكو. والسؤال الماثل: ما بعد حلب يكون روسياً أم إيرانياً؟ من الصعب الجمع بين المفهومين، والأجندتان آخذتان أخيراً بالافتراق، وهذا منطقي ومتوقّع، في معزل عن أي مراهنات عربية متعجّلة.
عبدالوهاب بدرخان
صحيفة الحياة اللندنية