دعونا نأخذ لحظة لتأمل ما يبدو أنه آخر عمل لهنري كيسنجر. الرجل يبلغ من العمر 93 عاماً. وفي هذا العمر، يكون معظم الناس محظوظين ليتوافروا على طاقة كافية من أجل لعب “دولاب الحظ” وإرسال بعض المشاركات على “فيسبوك”. وإنما، ليس كيسنجر. فهو في هذه الأيام يلعب لعبة النفوذ ضد أشخاص داخليين من الذين لم يكونوا حتى قد ولدوا عندما كان وزيراً لخارجية ريتشارد نيكسون.
يقول لي مسؤولون في الفريق الانتقالي لدونالد ترامب إن كيسنجر أمضى ساعات عدة منذ الانتخابات وهو يسدي المشورة لمستشار الأمن القومي المقبل، مايكل فلين، وفريقه. وهو أيضاً يقوم أيضاً بتفعيل شبكته القديمة. فقد أوصى بأن يكون مساعده السابق، كي تي ماكفرلاند، نائباً لفلين، وحث ترامب على أن يسمّي ريكس تيلرسن، الرئيس التنفيذي لشركة “إكسون موبايل”، وزيراً لخارجيته. ووفق أحد مستشاري المرحلة الانتقالية، فإن كيسنجر يعتبر واحداً من قلة من الناس الذين يدورون في فلك ترامب، الذين يستطيعون الوصول إليه هاتفياً متى ما شاء.
يجري ذلك وراء الكواليس وحسب. وفكر أيضاً في أن كيسنجر هو مروج صحفي مهم لترامب في الإعلام. فعندما شكك بعض الجمهوريين في حميمية علاقة تيلرسن مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، انبرى كيسنجر للدفاع عن الاختيار في برنامج “واجه الأمة” التلفزيوني الأميركي. وساعد كيسنجر في تخفيف أثر الضربة التي نجمت عن اتصال ترامب مع رئيسة تايوان في كانون الأول (ديسمبر) الماضي أمام لجنة “المائة” التي تدافع عن العلاقة الأميركية-الصينية. وقبل ذلك، طار كيسنجر إلى أوسلو لحث زملائه الحائزين على جائزة نوبل للسلام على إعطاء السياسة الخارجية للرئيس المقبل فرصة. ويبدو الحال الآن وكأننا نعيش العام 1975 مرة أخرى. وأنا نصف متوقع لأن أقرأ شيئاً ما في صحف التابلويد عن علاقة كيسنجرية مع نجمة ناشئة في هوليوود.
على أنه يجب القول إن كل الرؤساء الحديثين ووزراء الخارجية الحديثين تقريباً استشاروا كيسنجر في وقت أو آخر للاستماع إلى نصحه. لكن كيسنجر لم يكن يتمتع في أيام أوباما بتلك الهالة من النفوذ. فبعد أن اشترك في تأليف مقال رئيس منتقد للصفقة النووية الإيرانية، وصفت نائبة الناطق بلسان وزارة الخارجية الأميركية، ماري هارف، ذلك المقال بأنه مجرد “كلمات كبيرة وأفكار كبيرة” مع قليل من الأشياء المحددة.
ومع ذلك، يبدو من الغريب أن يصغي ترامب إلى كيسنجر. فهو بداية مؤلف العديد من السياسات التي يلمح ترامب إلى أنه سيبطلها. ولا يتعلق الأمر بسياسة “صين واحدة” فقط، والتي تمنع الاعتراف الرسمي بتايوان، حتى على الرغم من أنها تسمح للولايات المتحدة بتسليح الجزيرة. إن كيسنجر هو أيضاً مهندس صفقات السيطرة على الأسلحة التي أشارت تغريدات ترامب الأخيرة إلى أنها قد تكون في خطر.
أخبرني تيم نافتالي، المدير التنفيذي السابق لمكتبة ومتحف ريتشارد نيكسون الرئاسيين: “يبدو كيسنجر راغباً في إسداء المشورة إلى شخص شكك جهراً في أساس بناء النظام الدولي الذي كان كيسنجر قد ساعد في خلقه”.
ثم هناك مسألة كيف كسب ترامب الرئاسة. ولك أن تتذكر مقولته الختامية: “لأولئك الذين يسيطرون على وسائل النفوذ في واشنطن وعلى المصالح العالمية الخاصة، إنهم يشتركون مع أولئك الذين لا يضعون مصالحكم في عقولهم”. وهذا ليس وصفاً غير معقول لمؤسسة كيسنجر الاستشارية الخاصة، التي تقدم المشورة الاستراتيجية لحكومات أجنبية وشركات كبيرة منذ العام 1982.
من الطبيعي أن كيسنجر كان قد احتوى دائماً التعدد. وهو بالنسبة لمؤيديه مترنيك الأميركي، الدبلوماسي النمساوي وعالِم القرن التاسع عشر الذي كان قد شكل وشرح الجيوسياسات في حقبته. وليس من قبيل المصادفة أن يكون مترنيك موضوع أول كتاب لكيسنجر، والذي نشر في العام 1957.
صاغ نيال فيرغوسون، المؤرخ وواضع السيرة الذاتية لكيسنجر، المسألة كما يلي: “السبب في أن ترامب عول على كيسنجر هو أنه يرى فيه، محقاً، ألمع منظر جيوسياسي وممارس دبلوماسي خبير في الولايات المتحدة اليوم، وهو يدرك أنه يستطيع استخدام نصيحة كيسنجر لترتيب أولوياته الاستراتيجية”.
سيبدو هذا بلا شك أشبه بالموسيقى بالنسبة لآذان مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن ونيويورك. ومع ذلك، وبالنسبة للمثاليين في اليسار واليمين، يعتبر تأثير كيسنجر على ترامب إشارة إنذار حمراء. فنظير كل نجاحه في سياسته الخارجية، يعد كيسنجر أيضاً مؤلفاً للحظات أكثر إثارة للشكوك في تاريخ الحرب الباردة. فقد ساعد في هندسة انقلاب العام 1973 الذي أسقط الرئيس التشيلي المنتخب، سلفادور أليندي. كما صمم كيسنجر الاستراتيجية لقصف مواقع الجيش الفيتنامي الشمالي في كمبوديا، وهو شيء لم يطلع الكونغرس عليه. وقد عاد هذا التاريخ على هيلاري كلينتون بالتوبيخ من بيرني سادرز خلال الانتخابات التمهيدية الديمقراطية، عندما شكك في رجاحة حكم أي شخص يعتبر كيسنجر صديقاً شخصياً.
لكن كيسنجر ليس شخصاً بغيضاً عند اليسار وحسب. فقد اصطدم أيضاًمع المحافظين الجدد عندما كان مستشاراً للأمن القومي في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون. وكان السيناتور الديمقراطي هنري “سكوب” جاكسون قد دفع إدارة نيكسون إلى تبني عقوبات على الاتحاد السوفياتي مرتبطة مباشرة بمعاملته للمعارضين اليهود. وكان كيسنجر قد عارض تلك السياسة لأن من شأنها تقويض سياسته الخاصة بخفض التوترات مع موسكو، المعروفة باسم الوفاق.
فيما يعد ترامب العدة لتولي السطة في البيت الأبيض، يبدو أن روسيا تقسم واشنطن مرة أخرى. وكانت إدارة أوباما قد أصدرت في الأسبوع الماضي فقط تقريراً صادراً عن مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي، والذي خلص إلى أن أجهزة الاستخبارات الروسية مارست القرصنة الألكترونية على قياديين ديمقراطيين وسربت المعلومات للصحافة. لكن ترامب وفريقه الانتقالي شككوا في صحة هذه الاستخبارات.
ولم يتدخل كيسنجر في ذلك. لكنه داوم على القول في الأعوام القليلة الماضية أنه سيكون ضرباً من الذكاء إيجاد طرق للعمل عن قرب أكثر مع بوتين. وفي كلمة له في شباط (فبراير) الماضي في مؤسسة غورتشاكوف في موسكو، قال: “في النظام متعدد الأقطاب الناجم، سوف تشعر روسيا بأنها عنصر أساسي في أي توازن عالمي جديد، وليس كتهديد للولايات المتحدة بشكل رئيسي”.
ينسجم هذا المنظور جيداً مع وجهة نظر ترامب الخاصة، القائلة إنه يمكن التوصل إلى صفقة مع بوتين. وقال لي فيرغسون إن أحد أسباب القبول الذي يحظى به كيسنجر عند ترامب هو أن الناخبين كانوا قد ضاقوا ذرعاً بأساليب جورج دبليو بوش وباراك أوباما في السياسة الخارجية. وقال: “لم يكن كيسنجر مقترناً بكلا النهجين، على الرغم من أنه كان أقل انتقاداً بشكل علني للأول. أعتقد بأن ترامب منجذب إلى سمعة كيسنجر كرجل واقعي، على الرغم من أن هذا تشخيص غير دقيق له، كما حاججتُ. كما أنه يقدر بالتأكيد شبكة العلاقات الفريدة من نوعها التي يجلبها كيسنجر إلى الطاولة؛ ولك أن تتأمل فقط اجتماعاته المنتظمة مع بوتين والرئيس الصيني”.
رائع. الرئيس المنتخب الذي شن حملة ضد النخب العالمية يتطلع إلى رجل يعرف معظم هذه النخب بعلاقات حميمية على أساس المناداة بالاسم الأول. إنه ضرب من المفارقة التي يرجح أن يقدرها الزبائن السابقون لهنري كيسنجر.
إيلاي ليك
صحيفة الغد