إشكالية التأويل: جذور التطرف والعنف لدى التنظيمات الإرهابية (1-3)

إشكالية التأويل: جذور التطرف والعنف لدى التنظيمات الإرهابية (1-3)

638241382644_0

المقلّب في صفحات التاريخ الذي يسجل المآسي، يعرف أن ما تشهده المنطقة العربية الآن من حوادث تعذيب وقتل وتمثيل بالضحايا، هو فصل جديد من فصول هذا التاريخ الأسود. وفيه منذ القدم، قصصًا مأساوية، تبدأ وتنتهي– في أغلب الأحيان- مع الصراع على السلطة، تستخدم فيه مبررات تقليدية معروفة ومتكررة: الدفاع عن الأرض، الشعب، القومية، الوطن، الديانة، المذهب أو الطائفة…إلخ. فمن أي درب من دروب التاريخ خرجت علينا الجماعات الإرهابية التي ترتدي عباءة الدين الإسلامي، وما أبعاد ظهورها المتوحش في الآونة الأخيرة، وكيف ندرسه ونقاومه؟ وفي هذا المقال نحاول لفت الانتباه إلى إشكالية التأويل بعد عصر النبوة، حيث نذهب إلى أن جذور التطرف والعنف ارتبطت بهذه الإشكالية.

أولاً: عصر النبوة والعقل المنفعل الحافظ

لكل دين من الأديان معجزة رئيسية، غرضها إحداث صدمة ميتافيزيقية في نفوس جماعة من الناس تدفعهم لا شعوريا للإيمان بهذا الدين. ومن الطبيعي أن تنقسم الجماعة المَدْعُوَّة لهذا الدين إلى فريقين أحدهما مؤمن، والآخر منكر لكفاية هذه المعجزة، مهما كانت بائنة ومدهشة لحواس الإنسان الخمسة. ويزداد الأمر صعوبة وتفردًا في حالة الدين الإسلامي، فطبيعة المعجزة فيه قائمة على نص يخاطب العقل ولا يثير دهشة الحواس. هكذا جرت مشيئة اللـه سبحانه وتعالى، حتى إن المعجزة الكبرى– غير النص القرآني- وهي حادثة الإسراء والمعراج، لا تنطبع في نفوس المؤمنين، بوصفها أفعال الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء، لأنها خارج التصور بكل المقاييس الحسية. ولكنها انطبعت في نفوسهم بوصفها نصًا لرواية، وهو ما جعل أبا بكر يستنبط التصديق بهذه المعجزة قياسا على الحيثيات السابقة، بقولته المشهورة (أنا أصدقه في خبر السماء فكيف لا أصدقه في خبر الأرض) فاستحق من الرسول لقب الصِدِّيق كما هو معروف.

من هذا التمهيد، نستطيع القول إن الإسلام نَصٌ ينظم العلاقات الدينية والدنيوية، ويحتاج إلى عقل وقلب. غير أن وظيفة العقل في عصر النبوة تختلف جذريا عن عقل ما بعد النبوة. فمن ضرورات حفظ هذا الدين ظهور العقل المُنْفعل الحافظ، في عصر النبوة، وفيه تحتكم الجماعة المؤمنة إلى النص القرآني، مطوعين المفاهيم العقلية له، لأن الإيمان بمعجزة النبوة، يقتضي التسليم بكون النص القرآني حقًا مطلقًا، وعلى العقل أن يعدل منهجه، أي ينفعل بالنص، سواء اتفق النص أو اختلف مع مسلمات العقل والواقع الاجتماعي. ويلاحظ القارئ تنوعًا في أسباب اعتناق هذا الدين، فيجد أن البعض من الصحابة قاس النص على الواقع، فاختار النص وآمن به لأنه مُبشر بالمساواة بين الناس – إسلام الضعفاء والمهمشين، بلال بن رباح نموذجا – والبعض الآخر ابتدأ الدخول في الإسلام إما لصداقة مع شخص النبي أو لعاطفة معه أو لعصبية مشتركة– تصديق الصاحب (أبو بكر)، تعاطف الزوجة (السيدة خديجة)، مناصرة ابن العم (علي بن أبي طالب)، أو انفعالا نفسيا بحرية الإرادة دون القياس على الواقع (إسلام عمر بن الخطاب).

وقد اقتضت الحكمة الإلهية، أن يكون إيمان هؤلاء جميعًا مبني على حكم سابق على شخص   الرسول عليه السلام قبل البعثة، فلا يختلف اثنان من أهل مكة على أنه الصادق الأمين. هما صفتان ممهدتان لازمتان لقبول معجزة النص القرآني المتفرد. وتأتي ولادة العقل المنفعل الحافظ، كضرورة للتعامل مع النص في عصر النبوة، وظيفته حفظ النص القرآني والنبوي في ذاكرة الجماعة المؤمنة، وإثارة الاستفهام، وطلب التفسير والشرح، أي أن هذا العقل، ليس من وظائفه إنتاج تأويل للنص، فالمتكفل بالتأويل والتفسير والشرح هو النبي عليه السلام.

إن الإسلام نَصٌ ينظم العلاقات الدينية والدنيوية، ويحتاج إلى عقل وقلب

كان العقل الأول مهزومًا في مقابلة النص، ولا يعني ذلك إقصاء له، فما حدث لعقل الصحابة، أنه قدم التصديق على التحقيق، بل توقف عن التحقيق، طوال حياة الرسول عليه السلام. وقد ساعد على اكتمال التصديق ظهور النص القرآني المعجز، في مرحلة من مراحل تطور العقل البشري، استعصى فيها على أصحاب الفكر من غير المسلمين إقامة الحجة على بشرية النص أو تهافته، استعصاءً لا بسبب أن نَظْمَ القرآن مُعْجِز – وهو كذلك – وإنما لأنه يتضمن إخبارًا بالتاريخ البشري من قبل الاسلام وبالغيبيات من بعده.

ثانياً: ضرورات التأويل بعد عصر النبوة

ولأن الآيات القرآنية، كما يرى حمو النقاري، متفاوتة من حيث الوضوح، فهي تتصاعد سلميا من الوضوح التام لتصل إلى درجة الغموض التام. فإن غياب المؤول الأول – النبي عليه السلام- يقتضي بالضرورة ظهور حركة علمية تأويلية، يقودها طبقة من العلماء – ورثة الأنبياء. على معنى أن التوقف عند مستوى العقل المنفعل الحافظ، بعد وفاة الرسول، هو تقويض لانتشار هذا الدين، لأن سر إعجاز القرآن في قابليته المستمرة للتأويل إلى ما لا نهاية، بناء على ما يستجد من وقائع، أو يظهر من حقائق مفسرة للكون بمفرداته. كأن النصوص الغامضة في القرآن، خَبِيئَةُ المستقبل، كأحد مظاهر إعجاز هذا النص وقدسيته، وكلما ظهر منجز حضاري جديد، فهناك دائما – عبر التأويل العلمي – نصٌ كان قبل الكشف ثاويًا على إحدى درجات الغموض ليصبح نصًا واضحًا، وضوح نهار انسلخ من ليل بهيم.

ولا نقصد بالمنجز الحضاري هنا – كما يذهب السلفية – نتائج العلوم التجريبية فقط، وإنما في كل مناحي الفكر الإنساني أيا كان مُنْتِجُوها. ويترتب على ذلك أن هجر المعرفة الإنسانية بكل أنواعها، إنما يعني بالضرورة هجرًا للنص المقدس، كما أن التوقف عند مستوى النصوص تامة الوضوح، إنما يعني الغفلة عن الإعجاز القرآني، بعدم الاستفادة من الدلالات المختزنة فيه للمستقبل. وإجمالا فإن المعجزة القرآنية، تحتاج إلى حركة تأويل علمية ومستمرة.

ثالثاً: شروط تكوين الحركة العلمية التأويلية

هذه الحركة العلمية التأويلية، مهمتها إخراج المخبأَ من النص المقدس، إخراجًا لا مجال فيه للتحيز الذاتي غير المبرر. حركة تواؤُم بين ثلاثي (النص، العقل، الواقع) لذلك فإن تطور هذه المشروع العلمي الكبير، مرهون بتطور ثلاثة عقول:

(1) العقل المحقق في صحة المنقول من النص، وظيفته جوهرية، تشبه وظيفة جنود الكشف عن الألغام في المعركة، يطهرون المسار للجيش من خلفهم. فبعد وفاة الرسول عليه السلام، اضطربت عقائد أطياف من الجماعة المؤمنة خارج المركزين المكي والمدني، البعض رفض الالتزامات المالية، ممتنعا عن أداء الزكاة، والبعض ارتد عن الدين وعاد لعبادة أوثانه، وهناك نفر ركبتهم الخيالات، فتوهموا أنهم أنبياء جدد، بعثهم اللـه لملء الفراغ وإكمال المسيرة. فضلا عن طائفة من المنافقين، كانت وما زالت تحاول تقويض أسس هذا الدين. في هذا السياق التاريخي، لا بد وأن تموج الساحة بالأكاذيب والأحاديث المنسوبة للرسول. وقد احترف البعض وضع هذه الأحاديث الملفقة، حتى يُقال بأن أحدهم وضع ثلاثين ألف حديث لا أصل لها.

في هذا المناخ الضبابي، تبدو أهمية العقل المحقق، ووظيفته الجوهرية هي كشف هذه الأكاذيب. ولا يخفى على القارئ، أن عملية التحقق تتخذ مسارين: الأول من جهة إسناد الحديث، والثاني: من جهة متن الحديث – مضمونه، مناسبته، وسياقه– ولا صعوبة كبيرة في التحقق من الإسناد، إنما الصعوبة في التحقق من سلامة المتن، لأنه يحتاج إلى علوم اللغة العربية، ومن أسف أن تلك العلوم قد تأخر مولدها سنوات بعد عصر النبوة، ما حرم العقل المحقق في تلك الفترة من أهم أدواته.

ولا ندري على وجه الدقة لماذا تأخر ظهور العقل المحقق، الذي يضع المعايير العلمية لتدوين الحديث النبوي، ولكن ما نعرفه أن ظاهرة وضع الأحاديث الملفقة، لم تكن ظاهرة عفوية ساذجة، ولكنها كانت عملا سياسيا في المقام الأول. وما نعرفه أيضا، أن العقل الإسلامي المحقق – كاشف الألغام – قد انقسم انقساما إيديولوجيا في وقت مبكر من عمر الدولة الإسلامية، كما سنرى بعد قليل.

إن المسلمين أنجزوا بالعقل الإسلامي العلمي إنجازات مشهودة مستفيدين من التراث الإنساني من قبلهم ومتجاوزين له في ميادين شتى

(2) العقل الإسلامي العلمي: الذي يعاين الوقائع المستجدة، ولديه القدرة على قياسها، منفتحًا على التراث الإنساني بأكمله، ولا بد أن يتمتع بالحرية الفكرية الكافية، والحق أن المسلمين أنجزوا بهذا العقل إنجازات مشهودة مستفيدين من التراث الإنساني من قبلهم ومتجاوزين له في ميادين شتى.

(3) العقل الكاشف: ويمثل ذروة سنام حركة الإنتاج التأويلي ومتممها، المنطلق على هدي من العقل المحقق، والعقل العلمي في رحلة معرفية إبداعية، كاشفًا غموض النصوص، مُعْمِلًا التأويل المنضبط بشروطه الموضوعية، من أجل المواءمة بين الصحيح من النصوص المنقولة بعد وفاة النبي وبين العقل، وذلك من أجل تفسير الوقائع، وتوجيه السلوك توجيهًا يحمل الهوية الإسلامية السليمة.

رابعاً: المجتمع الإسلامي لحظة الانشطار

ولا شك أن هذا المشروع العلمي التاريخي، لم يُنْجَز بالطريقة المثالية التي يرجوها المؤمنون بهذا الدين، مع التسليم بوجود أئمة وعلماء أكابر، وربما يكون ذلك سرًا آخر من أسرار استمرار وتجدد هذا الدين. ومع ذلك ورُغْمِه فقد حدث إقحام السياسي والإيديولوجي في كل مرحلة من مراحل تشكل حركة الإنتاج التأويلي، إقحاما يمهد الأرض لبذر التطرف الديني، ويمكن توضيح ذلك باستخدام أدوات علم الاجتماع بفرعيه الديني والسياسي على النحو التالي.

الذي حدث أن التأويل تم اعتماده فعلا بعد عصر النبوة، ولكن كمتغير تابع للمتغير السياسي المستقل، فقد ولدت اللحظة التي ابتدأ فيها التأويل سياسيا، بتضافر أحداث تاريخية مكثفة، بداية من اجتماع (سقيفة بني ساعدة)، وفيه حُسِمَ أمرُ الخلافة لأبي بكر الصديق، وهو جدير بها، لاعتبارات كثيرة، غير أن الإسراع في حسم الأمر، بإقصاء سعد بن عبادة زعيم الأنصار، جاء عبر تأويل لحديث الرسول الذي ينص على أن (الأئمة من قريش). وبعد عقدين ونصف عقد من اجتماع السقيفة، تعاقبت على الدولة الإسلامية حوادث جسام أهمها: (1) مقتل الخليفة عثمان بن عفان عام 35 هـ(2) الحرب الأهلية ومعاركها – الجمل 36هـ ، صفين 37هـ ، النهروان 38هـ، بكل ما خلفته من فواجع وانقسامات. (3) ظهور فرقة الخوارج، المنكرة للتحكيم بين الجيشين، والمكفرة لعلي ومعاوية بعد هذا الإنكار.(4)ثم لاحقا بهذه الأحداث ومترتبًا عليها، ظهور الحكم الوراثي، بأخذ البيعة بولاية العهد ليزيد بن معاوية.

وإذا تأمل القارئ في هذه الحوادث الجسام، فسوف يكتشف أن كل حادثة منها، انطوت على صراعٍ سياسيٍ من نوع ما، ونشط كل فريق من المتصارعين في بناء قاعدة معرفية دينية تقوم على تأويلٍ سياسيٍ، يخالف الشروط السابق ذكرها. إن الإنتاج التأويلي المشوه في هذه اللحظة التاريخية، خاصة ما يتعلق بنظام الحكم ، لم ينشأ لأغراض علمية، غايتها التقدم، بل تم توظيفه لأغراض سياسية غايتها التمكن من السلطة.

كان تأويل النص في هذه اللحظة التاريخية، يتم لتبرير الصراع والتناقض القائم غير المعقول في أغلب الأحيان، كما حدث في أمر عمار بن ياسر، على سبيل المثال، فقد تسامع الصحابة قول النبي عليه السلام لعمار ” ويحك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية” وكان عمار من بين المقاتلين في صفوف علي بن أبي طالب، وقُتِل وهو كذلك، فأحدث ذلك صدمة بين صفوف جيش معاوية، فقد تأكدوا بقتلهم عمارًا، أنهم الفئة الباغية التي أخبر عنها الرسول. غير أن معاوية، تَأَوَّلَ الحديث، بقوله “أنحن قتلناه، إنما قتله الذين جاءوا به”، وهو تأويل سياسي بطبيعة الحال، لا ينشد الحق، إنما ينشد الإبدال للمحافظة على تماسك جيشه.

الإسلام جاء بمعجزة نصية، تحتاج إلى حركة تأويل علمي، لا تعرف التحيز، من أجل أن يستمر النص المقدس في مباشرة إعجازه عبر العصور

في مثل هذه الظروف السياسية المعقدة، لا بد وأن يُصَاب العقل المحقق – كاشف الألغام – بالتشرذم، فكل فريق يضع معايير سياسية غير علمية للتحقق من النصوص النبوية، وكل فريق يعتمد رواة بأعينهم، وشروطا لتصنيف الحديث، مختلفة عن الفريق الآخر. وفي النهاية يمسي المنتج التأويلي، مجرد تحصيل حاصل، لأنه يقر التناقض والصراع السياسي الموجود بين الفرق في تلك المرحلة الفاصلة من عمر الدولة الإسلامية، كونه لم يشخص حلا للصراع أو رؤية للمستقبل، بل أقر الانقسام وأسهم في تكريسه.

ولا يمكن التهوين من هذه المشكلة التأويلية، فكما ذكرنا في بداية المقال، أن الإسلام جاء بمعجزة نصية، تحتاج إلى حركة تأويل علمي، لا تعرف التحيز، من أجل أن يستمر النص المقدس في مباشرة إعجازه عبر العصور. لكن ما حدث أن الإنتاج التأويلي في تلك الفترة المذكورة، أسهم في ميلاد جماعتين، وتأسيس مجتمعين (المجتمع السُني مقابل المجتمع الشِيعي)، ولا مبالغة في استخدام اصطلاح “المجتمع” فقد احتمت كل فرقة بنصوص منقولة بعينها، وهجرت نصوصًا أخرى تهميشًا أو إنكارًا. وامتدت عمليات التأويل الانحيازي، إلى كل مناحي الحياة الاجتماعية والفكرية: كتعريف الإيمان والكفر، وفهم العبادات وطرائق ممارستها، وتطبيق الشريعة والقوانين الإسلامية، والإفتاء لتسيير الحياة اليومية لأفراد المجتمع، الخ. على معنى أن الانتاج التأويلي الانحيازي، ترتب عليه استقرار مرجعيات فكرية مختلفة، توجه الفعل الديني، الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي، والتشريعي، مُؤَسِّسَةً بذلك هوية اجتماعية سُنية وأخرى شِيعية، وبنية اجتماعية سُنية وأخرى شِيعية داخل ما يسمى بدار الإسلام.

خاتمة :

لا يمكن فهم أصل التطرف والعنف الظاهر في الآونة الأخيرة، إلا بالرجوع إلى الدروب التاريخية، ومحاولة فهم كل منعطف فيها، وفي المقال الثاني من هذه المقالات، سوف ننتقل إلى أثر الفرق الفكرية الإسلامية، ودورها في تكريس التطرف والنظرة الأحادية البعد، التي انطبعت على الشخصية العربية والإسلامية، وظهرت تجلياتها أخيرًا، في صورة تنظيمات، تدعي وتزعم أنها الممثلة لهذا الدين، وتمارس على الأرض ممارسات وحشية وهمجية، تزعم أن لها أصلا في الدين، بما في ذلك ذبح الرهائن وحرق الأسرى.

د. أحمد موسى بدوي

المركز العربي للبحوث والدراسات