عقيدة التغيير: كيف صنع القراصنة والعباقرة الثورة الرقمية في العالم؟

عقيدة التغيير: كيف صنع القراصنة والعباقرة الثورة الرقمية في العالم؟

indexعلى مدى التاريخ الإنساني، كان التطور التكنولوجي دوما ظاهرة تلفت الأنظار حولها، إلا أنها لم تكن منتشرة بشكل كبير. فمن وقت لآخر، كان يتم الإعلان عن اختراع ما، أو اختراق تكنولوجي معين. فلمدة قرنين من الزمان، استحوذت التطورات في قطاعي الزراعة والصناعة على الاهتمام الأكبر. إلا أنه في الأعوام الستين الأخيرة، كانت معظم التطورات والابتكارات تأتي من قطاع واحد فقط، هو قطاع “تكنولوجيا المعلومات”.

وعند التفكير في مسيرة الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن هو “وادي السيليكون  Silicon Valley”” . في هذا الصدد، يأتي كتاب والتر إزاكسون بعنوان “المبتكرون: كيف أحدثت مجموعة من القراصنة والعباقرة والمهووسين الثورة الرقمية؟”، ليلقي الضوء على مسيرة التطور التكنولوجي في الولايات المتحدة، وما تقود إليه الابتكارات بشكل عام، وكيف أن الإيمان بالتغير وتحويله لعقيدة هو الذي يصنع المستقبل.
مراحل التطور التكنولوجي:
يقسم إزاكسون مسار التطور التكنولوجي إلى ثلاث مراحل رئيسية، تبدأ المرحلة الأولى مع بداية ظهور النموذج الأول للحاسب الآلي عام 1946، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى الحرب الباردة، حيث كان يتم اعتبار الحاسب وقتها بأنه، نظريًّا، قادر على أداء أية مهمة، وتميزت هذه الفترة بسيطرة الجيش الأمريكي على هذا الأمر، حيث صُمم الحاسب الآلي بالأساس لحساب مسار قذائف المدفعية.
أما المرحلة الثانية التي استمرت لمدة عقدين ونصف عقد، فقد شهدت ظهور دور مركزي للشركات الخاصة في تطوير الحاسب الآلي، بداية من مختبرات بيل Bell Labs التي تم فيها اختراع الترانزستور، ثم بعدها في وادي السيليكون، وقد ظلت الحكومة جزءًا لا يتجزأ من العملية، وظل كذلك دعمها الكبير للأبحاث في هذا المجال، حيث أنفقت كل من وزارة الدفاع الأمريكية ومؤسسة العلوم الوطنية على الأبحاث الأولية المبالغ نفسها التي أنفقتها الشركات الخاصة فيما بين عامي 1950 و1980، خصوصًا أن الجيش كان أهم العملاء المستفيدين من التكنولوجيا الصناعية. وقد كان الدافع الحقيقي وراء ذلك التغير التكنولوجي، كما يشير زاكسون، هو المجمع الصناعي العسكري الأكاديمي الذي أدى في النهاية إلى ابتكار شبكة الإنترنت في السبعينيات.
ومع مجئ الإنترنت، وميلاد الحاسب الآلي الشخصي، بدأت المرحلة الثالثة والأخيرة، حيث كانت الفكرة العامة التي أشار إليها إزاكسون هي أن “الحواسب يجب أن تكون شخصية ومتفاعلة”، وهو ما ميز العقود الثلاثة اللاحقة لظهور الإنترنت وما بعدها، مع ضرورة أن يتم التحول من أجهزة الكمبيوتر عالية التكلفة، وصعبة الاستخدام إلى أجهزة مرنة وسهلة الاستخدام، وبأسعار معقولة، بما يضع قوة الكمبيوتر الهائلة في أيدى الأفراد العاديين.
عوامل النجاح:
إن أي قارئ لتاريخ التطور التكنولوجي قد يلاحظ أن من الصعوبة التفرقة بين أسباب نجاح أو فشل بعض الابتكارات التكنولوجية عن بعضها الآخر، وذلك لأنها في الغالب الأعم غير واضحة، كما أن حجم عينة المبتكرين ليست كبيرة، بما يجعل من الصعوبة بمكان التمييز بين العباقرة والحمقى. إلا أن ثمة بعض الأسباب المشتركة التي يمكن الإشارة إليها كأسباب لنجاح مسيرة التطور التكنولوجي.
أول وأهم هذه الأسباب هو التعاون الذي يعده إزاكسون المحرك الحقيقي للابتكار، فتاريخ التكنولوجيا لا يعد فقط سردًا لتاريخ العظماء المبتكرين، بل يكمن أيضًا في كيفية تعاون هؤلاء العباقرة والمبدعين مع بعضهم بعضًا، مثل جون موكلي، وبرسبر إيكرت اللذين اخترعا النموذج الأول للكمبيوتر، بما يعطي في النهاية إنتاجية هائلة لا يمكن مقارنتها، وهذا ما يفسِّر نجاح بعض الشركات في هذا المجال، حيث إنها اعتمدت على فرق بحثية قوية، والعديد من المفكرين من مختلف التخصصات.
كذلك من الأسباب المهمة للنجاح القدرة على تحويل الأفكار إلى منتجات حقيقية يمكن للأفراد استخدامها، حيث إن الابتكار الحقيقي ليس في اختراع شيء ما، بل في إنشاء نظام كامل يعمل بداخله هذا الاختراع، ويُضاف إلى تلك الأسباب وجود تمويل كبير للأبحاث الأولية التي تم إجراؤها، والتي ساعدت في الوصول إلى نتائج يمكن الاستفادة منها على أرض الواقع. وليس المقصود هنا التمويل المالي فقط، بل أيضًا ما يتعلق بتوفير البيئة المناسبة من معامل ومختبرات تُمكِّن الباحثين من أداء مهامهم بالشكل المطلوب.
وألمح إزاكسون إلى أن جميع المبتكرين الذين أوردهم في كتابه كان لديهم شيء مهم ومشترك، هو إيمانهم بأن التغير الدرامي قابل للحدوث، وأن الحواسب والإنترنت يمكنها تغيير نمط حياة الناس. وقد أسهم هذا الطموح في تحقيق ما كانوا يصبون إليه، بل وكان عاملا رئيسيا من عوامل نجاح تلك الثورة التكنولوجية.
مستقبل التطور التكنولوجي:
لقد غيرت التكنولوجيا المتقدمة، بلا شك، طبيعة حياة المواطنين، ليس فقط في طريقة تعلمهم واستخدامهم لتلك التكنولوجيا، سواء الحواسب الشخصية، أو الهواتف الذكية، بل أيضًا في طريقة تواصلهم وتعاونهم مع بعضهم بعضًا، حيث يُشير الكاتب إلى أن ذلك الأمر سمح للجهود الجماعية بأن تظهر على نطاق واسع بطريقة لم تكن ممكنة من قبل.
ويدعو إزاكسون إلى تعزيز مسيرة الإبداع والابتكار التكنولوجي التعاوني في الفترة المقبلة. فإذا كانت التكنولوجيا بالفعل قد وصلت إلى مراحل متقدمة حتى الآن، فإنها في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التقدم، مؤكدًا أن مسيرة التطور التكنولوجي لم تكن فقط عملا مهنيًّا، بل كانت مسيرة بشرية بالأساس، حيث كانت التكنولوجيا تنبض في قلوب معظم المبتكرين الناجحين، وكان لديهم الهدف والطموح لتغيير حياة الناس.
ويُضيف أن “المرحلة المقبلة من التكنولوجيا ستأتي بأدوات ووسائل جديدة يمكنها الربط بين التكنولوجيا، والإعلام، والموضة، والموسيقى، والتسلية، والتعليم، والأدب، والفنون، وكل شيء”، كما أن الجامعات الأمريكية حاليًّا تسعى لغرس روح التساؤل في عقول الطلاب من أجل تنمية الإبداع بداخلهم.
كما أن الدور الأكثر أهمية يقع على عاتق المهندسين الذين يصفهم الكاتب بـ”سحرة التكويد” وفناني الإلكترونيات والسيليكون والنحاس وغيره، بالإضافة إلى المبتكرين الذين يمهدون طريق العمل الثوري، ويوفرون المعامل التي يُمكن فيها إجراء التجارب المطلوبة بشكل يشجع على الإبداع ويُحفزه، بدايةً من التصميم الفني الجمالي للحواسب الشخصية، والهواتف، والخطوط البيانية، إلى توقُع بل وخلق احتياجات العملاء مستقبلا، والتي لا يعرفونها حتى، والعمل على التسويق لها بالشكل الذي يجعلهم يقبلون عليها.
كذلك يقع جزء كبير من المسئولية على رجال الأعمال والشركات الخاصة التي تستثمر في هذا المجال، بحيث يتم التركيز في المستقبل لا على احتكار التكنولوجيا، أو تحقيق أقصى ربح مالي، بل أن يتم السعي إلى تبني ودعم الأفكار التي من شأنها أن تغيِّر حياة المواطنين للأفضل، كما حدث مع الرُوَّاد الأوائل لجيل التكنولوجيا. فالابتكارات الناجحة كانت تتطلب إيمانًا بإمكانية التغيير، وإرادة تعتقد بأن من الممكن الانتقال من صفر إلى واحد، أو بكلمات أخرى “فإن أفضل طريقة لمعرفة المستقبل اختراعه”.
والتر إزاكسون
عرض باسم راشد- باحث في العلوم السياسية